بين صحافة "المزاج الوطني" وصحافة المهنية الحرة




من محكيات الحرب الثلاثية (الإنكليزية ـ الفرنسية ـ الإسرائيلية) على مصر عام 1956، أن الفنان المصري الراحل محمود مرسي كان أحد مذيعي راديو "بي بي سي" العربي، وبرفقته كذلك الروائي السوداني الشهير الطيب صالح.


مع الحرب، أعلن محمود مرسي استقالته من الإذاعة على الهواء، ليذهب إلى مصر ويقف ـ كما قال ـ إلى جانبها "في عدوان تشارك بريطانيا نفسها فيه".


الطيب صالح، بقي في الإذاعة العالمية الشهيرة، والناطقة بعدة لغات، وانتهينا بعد نهاية الحرب بسنوات طويلة في العالم العربي بفنان أسطوري كسبته السينما والدراما العربية ممثلا مثقفا مبهر الأداء، وروائي سوداني لم تستطع هجرته أن تطغى على سودانيته التي "عولمها" برواياته.


الملف الذي فتحته "الحرة"، هو حلقة في سياق سياسة إعلام ناطق بالعربية وبعقل غير عربي
وبقيت "بي بي سي"، بكل أقسامها ولغاتها، بما في ذلك قسمها العربي لتتطور في عصر الفضائيات إلى فضائية ملتزمة بذات المعايير المهنية العالية في تغطياتها الإخبارية، طبعا مع استمرار الإذاعة الشهيرة التي كانت قبل عصر الفضائيات وقبل عصر التلفزة مصدرا رئيسا للأخبار في العالم العربي الذي كانت محطاته الإذاعية حينها مشغولة جدا وباحتراف في عمليات فيزيائية مبهرة تحول الحقائق إلى تضليل، وكل ما يصدر عن الزعيم الملهم ـ أيا كان ـ إلى إنجازات تقارب المعجزات.


تلك بالضبط، هي عقدة الإعلام العربي الخاضع للأنظمة المتسلطة أمام الإعلام الناطق بالعربية الخاضع للمعايير المهنية ولا أدعي أنه بلا أجندات، فلا يوجد إعلام في العالم كله بلا أجندة أو فلسفة أو رسالة تقف خلفه.


قصة محمود مرسي تلك، أرسلها لي صديق على فيسبوك "رغم معرفتي بها" حين ظهرت إرهاصات صفقة القرن برعاية أميركية، محاولا التلميح لي أن أكون "بطلا" مثل محمود مرسي وأترك الكتابة في موقع "الحرة"، لأنني ـ والحال كذلك حسب منطقه ـ أتخندق في صف الأعداء.


كان ردي البسيط على الصديق أنه وفي المقابل فإن الطيب صالح لم يصفه أحد يوما بالخائن، وانتهى روائيا سودانيا عالميا لا يذكر السودان إلا وتم ذكره معه، هذا أولا، وثانيا ـ وهذا ما لم أقله للصديق ـ إن ما طرحه بالضبط هو مكمن المشكلة في الفهم للعمل الإعلامي الممزوج بالسياسة في العالم العربي، وهي عقدة تتمثل في مواجهة خاسرة دائما للإعلام العربي "الوطني" بعمومه أمام الإعلام الناطق بالعربية.


الصديق ليس استثناء من نخب تقول إنها مثقفة ألتقيها عادة فنتحدث. وكلما عرفت عن نفسي أني أكتب في موقع "الحرة" من واشنطن، أجد كلاما مثل الماء في فم من أحدثهم، فأبادر أنا بالرد على نفسي ومحدثي وأقول: نعم.. "الحرة" من واشنطن.


ثم أطلب منهم أن يتابعوها ويشاهدوها ويقرؤونها، ليحكموا بموضوعية قبل إصدار أي أحكام مسبقة مرتهنة لمزاجية عدائية عالية الحدة، تجعل الأغلبية تعتقد أن "الحرة" ليست أكثر من بوق إعلامي للإدارة الأميركية، وهذا تصور منطقي "وغير حقيقي" في ظل إعلام عربي في العالم العربي غالبيته أبواق لا أكثر.


♦♦♦


قبل أيام، صدر قرار عراقي بوقف نشاط مكتب "الحرة" هناك لثلاث شهور، والسبب أن "الحرة" أعدت تقريرا متلفزا يتحدث عن مؤسسة فساد مالي ضخمة في المؤسسات الدينية شيعتها وسنتها وبرعاية حكومية لأن العمائم واللحى هي المسيطرة على العقول هناك ونفوذها ضخم وهائل.


إن فتح ملفات كتلك، في الإعلام المحترم يكشف للمتلقي حجم الجهل بسبب الموروث الديني والعادات والتقاليد في عالم لم يعد يحتمل التخلف وهو يدخل مرحلة متقدمة من الذكاء الصناعي وفيه ـ رغم كل هذا الذكاء ـ جغرافيا لا يزال ذكاؤها البشري قاصرا عن الفهم والوعي السليم للكرامة الإنسانية.


من قال إن الإعلام ووسائله وأدواته يجب أن تحمل عصبية وطنية أساسا؟
هذا الوعي صار ضرورة، حتى لا نجد أنفسنا دوما في عالمنا الغارق في حشيش المذاهب والغيبيات نبحث عن تفسيرات لحوادث قتل بشعة مثل حادثة إسراء غريب في بيت لحم، التي تم قتلها وسيتم بسهولة أكثر حفظ قضيتها ضد جني مجهول تلبسها، وبأدلة رسمية لأن الشيخ "الجاهل ونصف الأمي" لا يكذب، والمختبر الجنائي "المدجج بالعلم والأدلة" ببساطة سيكون أمام الشيخ مختبرا كاذبا.


الملف الذي فتحته "الحرة"، هو حلقة في سياق سياسة إعلام ناطق بالعربية وبعقل غير عربي، وهو ما يجنب هذا الإعلام ومنهجياته السقوط في فخ السلطة وأصحاب النفوذ.


نعم، بالتأكيد هناك أجندة لقناة "الحرة" وباقي مؤسسات الشبكة العربية للإرسال في واشنطن، والأجندة هي إعلام ليبرالي (ليس بالوصفة الأميركية.. وهذا حقيقي)، يدعو إلى العلمانية والديمقراطية وحكم القانون ودولة المؤسسات، تحت عنوان عريض هو الكرامة الإنسانية، وتلك ليست عبارة إنشائية عابرة، بل مفهوم عميق وراسخ في وجدان كل ذي وجدان.


سيتنطح أحدهم ويقول لي: "انتقدوا إسرائيل مثلا.. أو انتقدوا سياسات واشنطن". لن أجيب.. بل سأوفر وقتي وأطلب ممن يسأل أن يتابع "الحرة" أولا قراءة أو مشاهدة.. ثم ليتجرأ بإعادة سؤاله.


♦♦♦


القصة ليست محصورة بـ "الحرة" من واشنطن، بل هي كذلك في مجمل الإعلام الناطق بالعربية، وكم تمنيت أن يكون حديثنا الشخصي "بنكهة عامة"، أنا والصديق ناصر الشروف، رئيس القسم العربي لقناة دويتشه فيله الألمانية (قناة خدمة عامة)، مصورا ومسجلا ونحن (صحفيون عرب في المهاجر حيث أوطاننا الجديدة)، نأسف لحال إعلامنا العربي (بعمومه مع الاستثناءات القليلة)، وسقفه الذي يكاد يصل حد العنق ليتحول إلى مقصلة رقابية مرعبة.


يحدثني الشروف (وقد استأذنته بالاقتباس)، عن بعض المشاكل التي تواجهها محطة الخدمة العامة الإعلامية التي يدير القسم العربي فيها، ويؤكد لي أن الاسطوانة المشروخة المتكررة من الانتقادات التي تتعرض لها محطته تتفتت غالبا أصداؤها قبل أن تصل مشارف أول حد من حدود القارة الأوروبية، خصوصا المؤسسات الإعلامية العربية التي تهاجم دويتشه فيله بوتيرة متفاوتة بين دولة وأخرى (وبترجمتي الشخصية: بين نظام وآخر).


هذا الوعي صار ضرورة، حتى لا نجد أنفسنا دوما في عالمنا الغارق في حشيش المذاهب والغيبيات
ويستغرب الشروف، مثلي أنا، تلك التهم التي تنطلق كموجات ممنهجة ضد الإعلام الناطق بالعربية، فمحطته التي يديرها باقتدار ومهنية مع طواقم عربية متنوعة وبكفاءات عالية، اتهمت من قبل الاعلام "المُسيّس والمُجيّش" بالخيانة والتبعية والعمالة فقط لأنها لا تمجد الأنظمة العربية، أو أنها لا تبالي في تعرية واقع حقوق الإنسان المنتهك في بلدان عربية مختلفة (كما هو الحال في مصر مثلا)، ليتصدى لها إعلام الغفلة الرسمي هناك بالتهم والسباب والشتائم.


وبعد كل ذلك... يقولون لك: أنت إعلام غير وطني!


من قال إن الإعلام ووسائله وأدواته يجب أن تحمل عصبية وطنية أساسا؟


♦♦♦


من كواليس العمل في مقالي الأسبوعي مثلا، أني لم أتلق يوما ملاحظة أو محاولة شطب أو تعديل في مقالي الذي أكتبه، لكن تلقيت مرة اتصالا أثناء تنقيح المقال وتحريره قبل النشر، من الزميل المختص وبخجل وتهذيب شديد أشار إلى عبارة كتبتها فيها لفظ جارح بحق شخصية سياسية عربية، وأن اللفظ لا يليق باسمي ككاتب (وهذا من أدب المتحدث معي)، وأنه "يقترح فقط" تعديلها بصفة أقل حدة أو شطبها، فقمت بتعديلها.


ومن ذلك أيضا، أني كتبت مقالين عن الشعب الشيشاني وتراثه المنسي والمظلوم، فاتصل بي المحرر المسؤول والمهذب ـ في المقالين ـ يستشيرني بمجموعة صور "مع حقوق نشر كاملة لها)، وأي منها يكون مناسبا ليعبر عن المقال ولا يكون فيها خطأ ولو بسيط يسيء لأي قارئ من أصول شيشانية أو قوقازية.


تلك التفاصيل الصغيرة جدا أيها السيدات والسادة، تلك هي التي تصنع مؤسسات كبيرة ومحترمة.




alhurra


AM:10:24:10/09/2019




152 عدد قراءة