الفكر الاجتماعي العراقي.. في حداد مفتوح طويل..!




‎فارس كمال نظمى
في هذه الساعات القاتمة، تظل كلماتنا باردة ومعانينا موحشة أمام نبضات شرايين فالح عبد الجبار التي ما تزال دافئة تريد التشبث بلغز الحياة التي غادرها مبكراً، ليترك ظلاله عميقاً في أسلوب تفكيرنا حيال الجدليات المتشابكة للواقع العراقي. 

فلا أظن أن أي باحث اجتماعي مهموم بأوجاع العراق، إلا وشعر صبيحة هذا اليوم 26 شباط 2018 أن جزءً ثميناً من ذاكرته المفاهيمية والرؤيوية قد مات أو فُــــقــِد أو تيتّم بشكل أو بآخر عند سماعه نبأ رحيل فالح عن عالمنا، عن عراقنا الذي ما يزال يحق له أن يفاخر - من بين أشياء قليلة باتت تستحق التفاخر- أن فيه ثمة مفكرين قادرين على استيعاب مآسي بلدهم وكوارثه في نماذج فكرية متينة وهادئة ومنفتحة ومشبعة بفضيلة الأمل وأنوار المستقبل، على غرار ما فعل هذا الفاعل الاجتماعي العميق طوال رحلته العقلية المتقصية والمضنية، من الخلايا الحزبية الحالمة بالتغيير إلى الأكاديميات المتقصية لشروط التغيير.

فالح عبد الجبار كان يعمل بطاقةٍ مؤسسية لا بطاقةٍ فردية، إذ ظل حريصاً طوال مشواره الفكري أن لا يتصدى إلا للقضايا المجتمعية الملتبسة ذات الجذور المتعددة المستويات، وذات المخرجات العملية المتداخلة الدلالات في آن معاً. ولذلك ملأ زمانه، وسيظل يملأ زماننا الحالي والقادم، لأنه ببساطة "جازفَ" بمقاربة الكليات السوسيوسياسية، ونجح في تأطيرها عقلياً في كل مرة، حتى حين كان يوغل في الجزئيات والتفاصيل. حقق كل ذلك مرة واحدة ودفعة واحدة: التأليف الفردي، والمداخلات العامة، والبحث الجماعي، وتأسيس المشاريع الأكاديمية، وإطلاق مشاريع النشر والترجمة.

فالح عبد الجبار ظل يسارياً وهو في أقصى حالات نقده للماركسية وانفتاحه على مدارس علم الاجتماع الأخرى، إذ لم يغادر أبداً فرضية أن الفكر العلمي الأكاديمي ليس ترفاً معرفياً محايداً، بل له غائيته الساعية لتغيير التاريخ إلى وضع أكثر عقلانية في علاقة المحكومين بالحاكمين، وفي اعتماد أسس منصفة لإعادة توزيع الثروة، وفي إمكانية أن يتدخل (أي الفكر العلمي) دوماً لبلورة وعي سياسي جماعي متقدم عبر التأثير في العوامل المادية المنتجة لذلك الوعي، لا سيما من خلال التأثير الإيجابي في نسق العلاقة بين السلطة والمجتمع. فالناس قابلون دوماً للتغيير بفعل السياقات المستجدة، أي مرشحون دوماً لإعادة إنتاج ظروف حياتهم بما يجعلهم أقرب إلى إشباع حاجاتهم المشروعة المستلبة، وهنا على الفكر العلمي أن يسهم في استكشاف هذه السياقات والعمل على إنضاجها.
وهو في يساريته هذه ظل عقلانياً وامبريقياً، على نحو فريد، إذ زاوج بهدوء وسلاسة بين التفكير العلمي والنزعة الأخلاقية دون أن يُفسِد أياً منهما، بل تلاقحا حد التماهي. فكانت بصمته التي ستبقى ماثلة في الثقافة العراقية: إنه المفكر المهموم بقضايا المستضعفين، دون أن يفقد ارستقراطيته الأكاديمية.

رحل فالح عبد الجبار تاركاً أسئلة طازجة كثيرة كان قد وعدنا بتقديم إجابات وافية عنها عبر مشاريعه التي لم تعرف الكلل أو الإحباط يوماً، إذ غادر مسرعاً منصاعاً لفكرة الموت البيولوجي السقيم والعبثي. وإذا كان قد ترك شيئاً جوهرياً لا يصدأ في عقول مجايليه وتلاميذه وقرائه، فإنه سيحقق حيزاً مؤكداً وثابتاً له أيضاً في ذاكرة الباحثين الشباب القادمين ممن سيجدون في مؤلفاته ومحاضراته ومقابلاته المتلفزة رصيداً مدهشاً لا ينضب، يتعلمون منه كيف يمكن استيعاب مجمل التطور الاجتماعي الغامض التكوينات والغايات، ببضعة مفاهيم آسرة كان وحده يجيد مزجها ببعضها على نحو تفسيري يبطل سحر المعطيات الكلية المعقدة.
.
أقولُ أخيراً.. وبهدوء وحزن وإشراق.. أن رحيل قامة لا تتكرر كفالح عبد الجبار قبل أوانه، مغترباً خارج وطنه رغم التصاقه الروحي به، ودون إسناد أو تقدير كافيين من مؤسسات بلده، تجعلني أسترجع بأسىً القيمة الكبرى التي لطالما التصقت بكبار المفكرين الاجتماعيين: قيمة الوفاء لمجتمعهم وناسهم وذكرياتهم الأولى رغم كل شيء. وببساطة، كان فالح وفياً لأفكاره وللعراقيين الذين أحبهم كثيراً، ولذلك فإنه ككل الكبار رحل ليبقى أبداً..!


AM:10:43:28/02/2018




632 عدد قراءة