برهم عمر
ترجمة: سالار تاوكوزي
بدأت بالحديث مع سائق التاكسي الذي أوقفته في (المنطقة الخضراء) بالحيطة والحذر. كان السائق يتسم بصفتين اثنتين؛ كان أحد مسلحي الحشد الشعبي، وأحد المستوطنين العرب الذين جلبهم نظام البعث إلى كركوك بقصد التعريب، ثم طردهم الكورد بعد الإطاحة بالنظام. وكان اتسامه بالصفتين المذكورتين يكفي لكي يكره الكرد، وقد تبدى لي ذلك بعد أن تنفس الصعداء قائلا: «آه يا أكراد… ماذا فعلتم بنا !».
كان السائق شابا في عمر 28 سنة، وكان قد قاتل ضد البيشمركة ضمن مسلحي الحشد الشعبي الذين دخلوا كركوك بعد 16 من اكتوبر عام 2017؛ ولهذا لم يكن يستطيع كتم حقده ضد كل كردي.
مر بنا موكب سيارات أحد المسؤولين العابسين في بغداد، ورأينا أحد حراس المسؤول، كان قد اخرج سلاحه مع نصف جسده من باب سيارة رفيعة، فلما اقترب من سيارتنا هدد سائق التاكسي قائلا: « خفف السرعة ليمر موكب سيادة الرئيس». ثم قال صاحب التاسكي موجها خطابه إلىّ « آه أيها الأكراد كم أرجعتم البلد إلى الوراء! لقد تسببتم في أن يتحول هؤلاء المسؤولون إلى بلاء ليقوموا باضطهادنا أكثر فأكثر».
لقد أدى الاستفتاء والحرب ضد داعش وإعادة السيطرة على كركوك والمناطق المتنازع عليها، إلى إعادة الأمل للمسؤولين العراقيين الفاسدين الذين يتبوأون المناصب العليا في البلد، فازدادت شعبيتهم بين المواطنين. ومنذ ذلك الحين لم تنطلق تظاهرة شعبية قوية وواسعة للضغط على رئيس الوزراء العراقي وتشكيلته الحكومية، فهم يظهرون أنفسهم كضمان وحدة الأراضي العراقية وإعادة السيادة الوطنية، ومن هنا يجمعون مكتسباتهم للانتخابات المقبلة.
بعد مضي سنوات، وفي مرحلة عمرية أخرى، وبتصور آخر، تجولت في شوارع بغداد المشهورة والمؤسسات المختلفة، وكانت أمامي فرصة كثيرة للحديث مع الناس والكسبة والمراقبين والصحفيين وغيرهم. وخلال حديثي مع هؤلاء الناس والجولات التي قمت بها في شوارع وأروقة المدينة، توضحت لدي الصورة، وتفهتمها أكثر مما كنت أتصورها في كردستان.
نحن لا نصدر هنا قرارات مسبقة حول ما فقده الكورد وما حصل عليه عن طريق الاستفتاء! يجب عرض الصورة من البعدين، إن هذا الفريق السياسي الذي يدير البلد أتعبوا أهل بغداد والمدن العربية الأخرى في العراق، لا يجرؤ هؤلاء القادة على العيش في العراق لولا الحواجز الكونكريتية التي يصل طولها 5 أمتار، ولا يجرؤن على السير إلا في القوافل العسكرية والأمنية والسيارات المدرعة، لا تجد من بينهم أحدا لم يتعرض للرشق بالأحذية والنعال وعلب المياه ! لا أحد منهم يجرؤ على النظر بأم عينية إلى أوضاع الخدمات والطرق المفككة السيئة وقذارة كل المناظر.
ماذا تنتظر من دولة لا تستطيع مراقبة بائع ساندويتش قذر، وافران صمون صدئة الآلات، ولا تستطيع أن تقول لمشغل مولدة كهرباء في حي من الأحياء لماذا تزود المنازل بكهرباء أقل منذ شهر وتحدد أمبيرات كهرباء المنازل كما تشاء؟ وماذا تنتظر من الحكومة التي سياراتها وآلياتها بيد المليشيات، وهم يستخدمونها كما يشاؤون ويهددون الناس بها ، ولا تستطيع الحكومة أن تأخذها منهم أو تخضعهم لمساءلة قانونية. إن جسد الحكومة غارق في الرشوة بحيث لا تقدر الحكومة على إنقاذ نفسها .
رئيس الحكومة العراقية بطل حرب الإرهاب، غير أنه يسير في مدينته بالمروحية، وعندما يمر بشارع يجب أن تتوقف الحياة فيها، ولكن ما يدعو للاستغراب هو أن وضع حكومة إقليم كردستان وصل إلى حد يقوم رئيس الحكومة العراقية بالتدقيق في قوائم رواتب موظفيها وينصحها بتقليل قواتها الأمنية وتعديل الوضع القانوني لمؤسساتها.
قلت لصاحب التاكسي: «أوصلني إلى وزارة الخارجية العراقية «. فأجابني قائلا: « أية وزارة خارجية تقصد! قد بدلت تلك الوزارة أماكنها عدة مرات ولها عدة مداخل» . بدا لي أنه لم يكن يعرف أية وزارة خارجية أقصد. ثم قال: « كاكة ! قل أوصلني إلى حيدر دبل» فتفهمت سريعا لماذا فلافل «حيدر دبل» أشهر من وزارة الخارجية لدى أهل بغداد؛ لان تلك المؤسسات منفصلة عن الحياة العامة للناس ومعيشتهم.
على الرغم من أن الأوضاع الأمنية في بغداد مستقرة جداً واختفت الانفجارات فيها مقارنة بالسابق، إلا أنه مايزال هناك تواجد لمفارز الشرطة الاتحادية وسيارات عسكرية على شوارع بعض الأحياء السنية وخصوصا الأحياء القريبة من مطار بغداد والمنطقة الخضراء. تقوم المفارز بتفتيش السيارات وتطلب بطاقة السكن من المارة.
يقول أهل بغداد الواعون: « لماذا فعل الكرد بنفسه ما فعل؟ إنهم كانوا يقررون على كل شئ في العراق، كاد إقليم كردستان أن يصبح موضة تحرج بغداد» كان البغداديون يقولون: « انظر إلى الكرد كيف خدموا أنفسهم عن طريق ميزانيتهم؟ تمكنوا من القضاء على ظاهرة حمل السلاح، وقد أصبح إقليم كردستان مكانا سياحيا لسياح المدن العراقية، انظر.. كيف نظموا الطرق وأنشأوا طرقا جديدة، وكيف جلبوا الشركات العالمية لخدمة مناطقهم! كيف يقومون بإجراء الانتخابات وتتطور محاولاتهم لتداول السلطة وغيرها!
هكذا كانت وجهات نظر مواطني بغداد تظهر لك، لكن قادة الاستفتاء أحسنوا إلى مسؤولي بغداد الفاسدين وأعطوهم فرصة التنفس مرة أخرى بإجراء استفتاء الانفصال، فبذلك أرجعوا كردستان والمدن العراقية إلى الوراء، وعاقبوا المواطنين المحرومين مرة أخرى، وأرجعوا الفلوس للجيوب المظلمة التي تسخر من رواتب المعلمين والموظفين وحقوق الفلاحين وأصحاب الأعمال. NN
الزمان