منصات "القطيعة": هويات قاتلة وحروب افتراضية
حسن الشوبكي
يهرب المرء من ضجيج يوم عمل صاخب إلى لحظة استرخاء عجولة في مساء صيفي، بحثا عن الطمأنينة وتنسم الهواء العليل، وما هي إلا دقائق وتكون اليد قد امتدت إلى الهاتف "الذكي" وتسللت من شاشته إلى صخب آخر، لكنه شديد الحدة ولا يشبه صخب يوم العمل. 
 
فذاك لم يغادر مربع الدولة الصفوية، وآخر مسكون بالخلافة الإسلامية، وبينهما من يلقي باللائمة على الحروب الصليبية، وفي الأثناء يرتحل بنا مغرد إلى فضاء العلمانية ويتناسى تركيبة مجتمعه وهشاشتها، ويتجاهل قبل ذلك أن الأمور لا تتم بمجرد إقرار ناشط من على موقعه في تويتر أو  فيسبوك بأن المجتمع بلون أحمر أو أخضر، فيتلون المجتمع باللون الذي أراد!
 
مجتمعاتنا ليست متماسكة في الواقع وهي أكثر سوءا في العالم الافتراضي، إذ تبدو هشة وغير متماسكة ومسكونة بالكراهية وعطشى للون الدم
اصطفاف مرعب بين سنة وشيعة، وشمالي وجنوبي، وأبيض وأسود، ومتدين وعلماني، كل طرف يعتقد بأنه يملك الحقيقة، وأنه منزه عن الخطأ، بل يذهب إلى أنه مركز الكون والعالم يدور حوله، لتتفشى في أوساط هذا الجدل أمراض نفسية وعبارات عنصرية، وتتكاثر جرائم اغتيال الأفراد والمجتمعات والأمم عبر إشهار خطاب الكراهية وعدم قبول الآخر، بل والتحريض ضده.

حتما الإشكالية ليست في المنصات التي من المفترض أن تكون للتواصل لا الاحتراب، بل في العقول التي تتمترس خلف الطائفية والخوف وترغب في النوم بين القبور مع أمم ودول مضت بما حققته من إنجازات أو منيت به من إخفاقات، وإن كان السؤال عن الحرية ومسؤولية التحليق بمفرداتها، فإن اختبارات السنوات الأخيرة -وفي مقدمتها شكل ومضامين الكتابة والتعبير عن الرأي في الفضاء الإلكتروني ضمن المحيط العربي- تنذر بمخاطر حقيقية؛ فبث الكراهية أصبح أمرا مألوفا، وتقديس القبيلة والطائفة وغيرهما من الهويات الفرعية يتقدم على حساب الهوية الوطنية الغائبة.

مجتمعاتنا ليست متماسكة في الواقع، وهي أكثر سوءا في العالم الافتراضي، إذ تبدو في تويتر وفيسبوك وغيرهما من المواقع هشة وغير متماسكة ومسكونة بالكراهية وعطشى للون الدم، فمعظم التغريدات -ومجازا تسمى تغريدات- تنضح بالإقصاء، وهي أقرب إلى الفاشية ولا تتصل بارتفاع منسوب الحرية لدى صاحبها بقدر ما تعبر عن إصراره في رسم صورته على شكل عنصري وكاره لكل ما يحيط به، ويبدو المسعى مجرد اختطاف للواقع عبر لحظة جدل و"نصر مؤزر" يخرج فيها "المغرد" كل التشوهات والأوجاع التي تعاني منها مجتمعاتنا الثكلى.
 
الدول العربية منفردة ومجتمعة فشلت بعد حصول كل منها على الاستقلال "الشكلي" في تأسيس هوية وطنية جامعة ومانعة
ما الذي دفع الحكومة الأردنية قبل عشرة أيام إلى مناقشة مظاهر التمييز والكراهية وتهديد الوحدة الوطنية في البلاد؟ وهل إعداد تشريع يجرم الكراهية على نحو مباشر، لا سيما في وسائل التواصل الاجتماعي، سيحمل حلولا سحرية؟ الجواب قد يكون لا، فثمة تشريعات عديدة وقوانين (العقوبات والمطبوعات والنشر والجرائم الإلكترونية) تعاقب كل من يتجاوز، لكن الأمر في ما يبدو خرج عن نطاق السيطرة، وأصبح متصلا بشكل مباشر مع تربية الفرد وتنشئته ومضمون تعليمه وربط سلوكه مع منظومة القيم والأخلاق.

صحيح أن العالم ليس ورديا، وأن خطاب الكراهية موجود ومتزايد في أميركا وأوروبا كما هو لدينا في السياسة والشحن المذهبي والهوياتي، وثمة حروب أهلية استوطنت في العديد من الدول العربية، لكن الاستمرار بالوتيرة ذاتها وعلى يد الجيل الشاب، يعني أن التحريض ضد الآخر، بل وقتله، سيبدأ من "تغريدة" أو منشور في الفترة المقبلة، في ظل الاستخدام غير القانوني وغير الأخلاقي لكل وسائل الإعلام والتواصل وشبكات ومنصات "السوشيال ميديا".

حصاد التحريض والعنصرية والكراهية أسود لا محالة، فقبل 22 عاما كانت رواندا على موعد مع إبادة جماعية، إذ قتل خلال مئة يوم ما يربو على مليون إنسان فيها، بعد أن أنشأ متطرفو الهوتو - الأكثرية العرقية- فيها محطات إذاعية تنشر الكراهية وتحث الناس على قتل أقلية التوتسي، وكان اسم البرنامج "التخلص من الصراصير".
 
أما الحرب العالمية الثانية التي لمع فيها نجم النازية على يد المستبد هتلر والفاشية من جانب الديكتاتور موسوليني فلقد انتهت إلى ستين مليون قتيل، وكانت العنصرية والكراهية السبب الأكثر وضوحا في هذه الخسائر البشرية الثقيلة، في الوقت الذي جاء به هتلر إلى زعامة ألمانيا من صندوق الاقتراع نظريا، وسبقه موسوليني إلى حكم إيطاليا وكان صحافيا. 
 
لا تجدي الندوات والمؤتمرات للحد من تفشي الكراهية، نحتاج إلى دورات أساليب التخاطب والحوار واحترام الآخر والقبول به
الدول العربية منفردة ومجتمعة فشلت بعد حصول كل منها على الاستقلال "الشكلي" في تأسيس هوية وطنية جامعة ومانعة، وظلت الهويات الفرعية والضيقة تتلاعب بها حتى وقت قريب، بينما درجت الأنظمة وأجهزتها القمعية على سد الأفواه ونشر الخوف بأشكال شتى، وفي لحظة فارقة حدثت الاحتجاجات والثورات التي قوبلت بثورات مضادة.
 
وفي غفلة من التطور التكنولوجي، ظهرت أجهزة ووسائل ومنصات تساعد العربي -كما غيره- على تجاوز حالة الخوف والرعب التي عايشها لعقود، وبقدر ما قدمت هذه اللحظة التاريخية وذاك التطور التكنولوجي من هوامش للحرية والتعبير عما يجول في النفس بقدر ما كشفت وعرت هشاشة مجتمعاتنا وعنصريتها وطائفيتها.

المفارقة في مشهد الكراهية المفتوح أن من يعبر عن ذاته وأفكاره وقيمه في هذه المنصات يكون مستلقيا -في معظم الأحيان- في غرفة مكيفة ويحظى ببعض الرفاهية وليس حاملا بندقية في جبهة احتراب أهلي، يبتسم لطفله ويتحدث معه بحروف تفيض براءة وطيبة، بينما يشتم ويحتقر من على شاشة هاتفه جاره في الوطن وشريكه في المستقبل الاقتصادي وشقيقه في الدين! أي شيزوفرينيا تلك التي تجعله ذئبا في العالم الافتراضي وضمن مجاميع الأغلبية الصامتة في الواقع الحقيقي.

لا تجدي الندوات والمؤتمرات للحد من تفشي الكراهية، نحتاج إلى دورات أساليب التخاطب والحوار واحترام الآخر والقبول به، نحتاج أيضا إلى مهارات في إدارة الاختلاف

الجزيرة 

AM:03:43:19/04/2017