نحو معالجة جادة ومسؤولة لبعض لمظاهر السلبية في حركة حقوق الإنسان العراقية!
د. كاظم حبيب
من ينظر قليلاً إلى الوراء ويستعيد مسيرة حركة حقوق الإنسان بالعراق، سيجد دون أدنى ريب، أنها قطعت شوطاً مهماً في التعامل مع وقائع انتهاك حقوق الإنسان والتجاوزات الثقيلة على المبادئ الأساسية التي تبلورت وتراكمت عبر الفترة الواقعة بين صدور اللائحة الدولية لحقوق الإنسان في العاشر من كانون الأول /ديسمبر 1948 والمواثيق والعهود الدولية الخاصة بحقوق الإنسان السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي صدرت في النصف الثاني من العقد السابع من القرن العشرين حتى الوقت الحاضر، والتي شملت الكثير من اللوائح المهمة جداً مثل حقوق المرأة وحقوق الطفل وحقوق السجناء السياسيين وحقوق المواطنين والمواطنات من أصل أهل البلاد وحق تقرير المصير للشعوب صغيرها وكبيرها والحق في التنمية والحق في بيئة نظيفة...الخ، وهي بهذا المعنى قدمت بعض المنجزات المهمة لصالح حركة حقوق الإنسان وإنها قد اكتسبت خبرات قيمة يمكن أن تكون زاداً مهماً للوقت الحاضر ولقادم الأيام والأعوام.

إلا إن واقع الحال يقول بأن هذه الحركة الإنسانية النبيلة كان في مقدورها أن تقدم أكثر مما تحقق لها حتى الآن لو لم تكن تعاني من عدد من العلل التي تحولت عملياً إلى مشكلات تواجه العاملين والعاملات فيها، وعرقلت، وهي ما تزال تعرقل، ما كان يمكن أن ينجز لصالح الإنسان العراقي الذي كان وما يزال هدفاً أساسياً من أهداف قوى الاستبداد والقهر والتمييز والعنصرية والطائفية السياسية المقيتة والتمييز الصارخ ضد المرأة ومعاناة الطفولة، سواء أكانت هذه القوى في الحكم أم خارجه.

لا شك في أن بعض هذه العلل ذات طبيعة موضوعية ناشئة عن طبيعة المجتمع العراقي الذي يعاني من تخلف اقتصادي واجتماعي ومن قدرة القوى المناهضة لحقوق الإنسان من تزييف وتشويه وعي الإنسان في ظل الأمية والخراب الفكري والردة الاجتماعية التي تعم البلاد منذ ما يزيد عن خمسة عقود، إضافة إلى وجود فئات رثة تحكم البلاد منذ إسقاط الدكتاتورية الغاشمة حتى الآن. وإذا كان الإرهاب قبل ذاك يمارس من حكومة صدام حسين، فأنه اليوم يمارس من جهات كثيرة بحيث حولت حياة الشعب العراقي إلى جحيم لا يطاق والخسائر البشرية لا تحصى ولا تعد. كما إن الفساد كان سائداً في فترة حكم صدام، واليوم تحول إلى نظام سائد ومعمول به وتمارسه السلطات الثلاث دون حياء. إن الفساد والإرهاب سائدان اليوم بشكل يصعب على الإنسان السوي تصوره لأن ممارسيه يشكلون جزءاً من قوى السلطة ومن خارجها، ولكن من الأحزاب الحاكمة.

وإذا كانت هذه العلل ناتجة عن واقع موضوعي قائم، ولكن هناك أيضاً تلك العلل الذاتية التي ترتبط بطبيعة العاملين والعاملات في هذا المجال، والتي لا تنفصل بطبيعة الحال عن واقع المجتمع ذاته ومستوى تطوره وتقدمه ووعيه.

ومثل هذه العلل القائمة لا تقلل من النجاحات المطلوبة والضرورية لحركة حقوق الإنسان لإنصاف المظلومين والمنتهكة حقوقهم الأساسية فحسب، بل إنها تضعف من التفاف الناس حولها ومن مصداقية العاملين والعاملات فيها أمام المجتمع، والتي تُستثمر بأبشع الصور من جانب المناهضين لحقوق الإنسان والساعين إلى إفشال جهودها ووجودها أصلاً، وهي التي تعتبر شوكة فعلية في عيون مغتصبي ومنتهكي حقوق الإنسان، بمن فيهم الحكومات المتعاقبة والمسؤولين على مستوى العراق كله. فما هي هذه العلل والمشكلات التي تواجه حركة حقوق الإنسان العملية؟

مع الأهمية البالغة لوجود منظمات تدافع عن حقوق الإنسان العراقي في الداخل والخارج، إلا إن المشكلة تبرز في وجود عدد متزايد من هذه المنظمات التي تعود فعلياً لأحزاب سياسية حاكمة أو حتى غير حاكمة لا تلتزم بمعايير حقوق الإنسان. فهي تنتقد انتهاك الحكومة العراقية بحق حين تنتهك حقوق الإنسان بفظاظة، ولكنها تسكت حين تنتهك هذه الحقوق من جانب حكومة الإقليم أو مجالس المحافظات. وهي تنتهك الأحزاب السياسية التي تنتهك حقوق الإنسان، ولك نها تنسى انتهاك أحزابها والعاملين فيها حين تنتهك حقوق الإنسان. ومثل هذا الواقع يضعف مصداقية عمل منظمات حقوق الإنسان، في حين إن المنتهك لها هي بعض هذه المنظمات غير المستقلة. وهنا لا بد من التمييز السليم بين هذه المنظمات وتلك التي لا تلتزم بالمعايير الحقوقية لحركة حقوق لإنسان، رغم صعوبتها التمييز احياناً.

إن الكثير من العاملات والعاملين في حركة حقوق الإنسان لم يدرسوا بعناية كبيرة مبادئ ومعايير حقوق الإنسان منذ العام 1948 حتى الوقت الحاضر والتي بلغت عشرات الوثائق واللوائح المهمة جداً. وبعضهم لم يقرأ بالتفصيل حتى اللائحة الدولية لحقوق الإنسان. إنها تشير غياب الرغبة في القراءة والتعلم والتفاعل مع هذه الوثائق وسبل متابعة انتهاك حقوق الإنسان. ومنظمات حقوق الإنسان الجادة يفترض فيها أن تساعد، لا في نشر وترويج هذه الوثائق واللوائح فحسب، بل وأن تُدّرسها للعاملين والعاملات فيها، لكي تحصنهم من وقوعهم بالذات بانتهاك حقوق الإنسان ضمن عائلاتهم أو في المحيط الذي يعملون فيه. وأرى بأن هذه المشكلة كبيرة حقاً، سواء بالنسبة لمن يعملون بداخل العراق أو خارجه، والتي تتجلى في ضعف الاهتمام بالاجتماعات والندوات التي تمس حقوق الإنسان.

تجد هذه الوقائع انعكاساتها في العلاقات الإنسانية والاجتماعية بين العاملين والعاملات في هذا المجال الحيوي الذي يستوجب التناغم والانسجام والتفاعل الودي بينهم وتبادل الخبرة والمعرفة. إذ تبرز المنافسات غير الودية والحساسيات وضعف الاحترام المتبادل والمشاكسات والشللية إلى حد بروز أحقاد وكراهية وعدم قبول الآخر أو العمل معه، وهي تجليات للحساسية المفرطة والمزاحية التي تقود إلى تدهور العمل أو إضعافه أو تى التخلي عن بعض الكفاءات بسبب كل ذلك أو بعضه. والتجارب التي مرت بنا تؤكد العواقب السلبية لهذه الظاهرة على عمل اللقاءات والمؤتمرات والاجتماعات التي تنظمها منظمات حقوق الإنسان.

الفهم الخاطئ لمبدأ الحيادية في عمل منظمات حقوق الإنسان. فمنظمات حقوق الإنسان ليست حيادية إزاء المبادئ التي تعمل بها وتستند اليها في نشاطها. فليست هناك حيادية بين الضحية والجلاد، سواء أكان هذا الجلاد شخصاً أم جماعة أم حزباً أم حكومة، وسواء أكان الضحية من هذه القومية أو الدين أو المذهب أو الفلسفة أو الفكر الذي يحمله، فالإنسان هو الإنسان مهما كانت الخلفية القومية والدينية والمذهبية والفكرية التي يحملها، والانتهاك هو انتهاك ولا يمكن تفسيره بغير ذلك. والحيادية لا تعني السكوت بل عدم التمييز بين الضحايا أياً كان، وبين الجلادين أياً كان. فعلى سبيل المثال إن مارسنا النقد وشجب التجاوز على حقوق الإنسان من جانب الحكومة العراقية، لا يجوز بأي حال السكوت عن تجاوزت مماثلة تقوم بها حكومة إقليم كردستان على حقوق الإنسان أو المجالس المحلية في المحافظات مثلاً. هنا تستوجب الحيادية التامة، إذ أن انتهاك كرامة الإنسان بأي شكل كان هو تجاوز فظ على أهم مبادئ حقوق الإنسان ولا يجوز السكوت عن بعض منتهكيها وشجب غيرهم ممن ينتهك حقوق الإنسان. إذ عندها تفقد منظمات حقوق الإنسان في مثل هذه الحالة مصداقيتها وأساس عملها الإنساني النبيل. فلا حياء ولا خشية ولا سكوت على من يرتكب حقوق الإنسان بأي شكل كان، وبالتالي فمن نافل القول أن نؤكد بأن من يخشى النقد أو يهابه لأي سبب كان، عليه الكف عن العمل في هذا المجال إذ إنه أفضل له وللمنظمة التي يعمل فيها. وهي أفضل من ممارسة التمييز وغياب الحيادية الضرورية.

بسبب ضعف اهتمام الكثير من أعضاء منظمات حقوق الإنسان بالداخل والخارج بقضايا حقوق الإنسان ، فأن المسؤولين غالباً ما يتخذون قرارات فردية أو لا يعودون إلى هيئاتهم القيادية للمداولة واتخاذ القرار المناسب بهذه القضية أو تلك. وتبقى المسألة محصورة بالأمين العام أو أي تسمية له تمنحها النظم الداخلية. وعدم أو ضعف الاهتمام يساهم في اعتياد المسؤول في عدم العودة للهيئة القيادية أو للهيئة العامة في أهم الأمور التي تستوجب المداولة والمناقشة واتخاذ القرار الشرعي.

أغلب العاملين في مجال حقوق الإنسان جاءوا من مواقع سياسية ثلاثة، إضافة إلى مجموعة من المستقلين، والمواقع:
** الحركة القومية العربية أو الحركة القومية الكردية؛ ** الحركة اليسارية؛ ** الحركة الإسلامية السياسية. وغالباً ما يكون هؤلاء مشدودين إلى أحزابهم السياسية ويصعب عليهم اتخاذ موقف الحياد إزاء احتمال ممارسة أحزابهم لانتهاكات معينة لحقوق الإنسان. إن المتابعة الفعلية لعمل تنظيمات حقوق الإنسان على مدى الفترة الواقعة بين 1980 حتى الوقت الحاضر، يمكن تأكيد حقيقة إن الكثير من هذه التنظيمات لم تكن حيادية نهائياً أو بالشكل المطلوب الذي تستوجبه لوائح حقوق الإنسان. وحين تكون هذه القوى خارج السلطة، فأنها تكون مستعدة لشجب ممارسات الحكم، وحين تكون قواها أو أحزابها بالسلطة تنسى حقوق الإنسان. 

ويمكن أن نؤكد ذلك بالنسبة للجميع خلال العقود الخمسة أو الستة المنصرمة. ولا بد لهذه الحالة من أن تتغير وأن تستقل منظمات حقوق الإنسان عن الارتباط بهذا الحزب أو ذاك، وأن تعزز من استقلاليتها. هذا لا يعني أن أعضاء منظمات حقوق الإنسان، قيادة وقاعدة، لا يجوز لهم أن يعملوا في احزاب سياسية، ولكن عليهم أن يخلعوا رداء حزبيتهم حين يعملون في منظمات حقوق الإنسان. أما المنظمات المرتبطة بقوى الإسلام السياسي فأن مبادئ حقوق الإنسان ترفض تأسيس أحزاب سياسية على أساس ديني أو مذهبي أو عنصري، وبالتالي فأن وجودها يعتبر مخالفة صريحة لمبادئ حقوق الإنسان.

الظاهرة السلبة الأخرى تبرز في وجود رغبة في الظهور والروح الاستعراضية، ففي المؤتمرات ينشطون ويلتقطون الصور وينشرونها مع تعليقات عن مشاركتهم أو زيارتهم السريعة "ليتفقدوا" النازحين، ولكن في العمل الفعلي على مدار السنة لا تجد لهم حضوراً واعياً وفاعلاً ف ي الدفاع عن حقوق الإنسان. وهي المسألة التي يفترض تشخيصها بأمل أن ينتبه هؤلاء لأهمية مشاركتهم في العمل وليس لاستعراض مشاركتهم الشكلية فقط، وهي ملاحظة لا تهدف للإساءة لأحد.

إن مبدأ التضامن بين منظمات حقوق الإنسان في نضالها ضد انتهاك هذه الحقوق يعتبر واحداً من أهم المبادئ الذي يفترض أن تمارسه هذه المنظمات، فهو أحد الأدوات الأساسية بيد ضحايا النظم الاستبدادية واللاديمقراطية في الدفاع المشترك ضدها وإثارة الرأي العام العالمي والمجتمع الدولي ضد الجلادين ومنتهكي حقوق الإنسان. كما إن التضامن يسهم في تعريف منظمات حقوق الإنسان العراقية للمنظمات الأخرى في سائر أرجاء العالم من جهة، ويمنحها فرصة الحصول على التضامن من منظمات مماثلة لها في الدول الأخرى، لاسيما وإن العراق يعيش منذ ما يقرب من ستة عقود تحت سياط الجلادين ومنتهكي حقوق الإنسان. فعلى سبيل المثال، حين قررت هيئة الدفاع عن أتباع الديانات والمذاهب في العراقمسيحيين الأقباط بمصر بعد الاعتداءات الغاشمة وإشعال الحرائق في الكنائس وقتل الكثير من البشر، وقتل الكثير من البشر، اعترض أحد الأشخاص وطالب بحصر عمل الهيئة في شؤون العراق فقط. وقد رُفض هذا الطلب من الأمانة العامة لهيئة الدفاع عن أتباع الديانات والمذاهب وأشارت إلى أهمية هذا النوع من التضامن حتى من جانب التضامن معنا ونحن بأمس الحاجة له بالعراق. التضامن بين منظمات حقوق الإنسان لصالح الإنسان وحقوقه مسألة ضرورية وأساسية ولا يجوز التخلي عنها بأي حال.

أتمنى على منظمات حقوق الإنسان مناقشة هذه الملاحظات وتشخيصها بكل صراحة ووضوح للتخلص منها لصالح العمل وتقدمه ولصالح الإنسان العراقي. ويمكن أن تلعب مواقع حقوق الإنسان والمجلات دورها في هذا المجال. لقد ابتعدت عن تشخيص المنظمات أو الأشخاص، لأنها ظواهر عامة تشملنا جميعاً وتدعونا جميعاً للتعاون من أجل إزالتها وتحسين عملنا، إذ إن ما ينتظرنا أكثر بكثير مما مررنا به حتى الآن في مجال انتهاك حقوق الإنسان وحقوق القوميات وحقوق أتباع الديانات والمذاهب الدينية والفكرية والسياسية.

AM:03:08:21/06/2017