رسالة المثقف!
د. لاهاي عبد الحسين
مات الرصافي وهو في السبعين من العمر وحيداً معدماً في بيته المتواضع في الأعظمية عام 1945. ونقل التلفزيون العراقي عام 1999 مشهد نقل جثمان الشاعر عبد الوهاب البياتي في منشأة لمصلحة نقل الركاب في دمشق وهو بعد في الرابعة والسبعين من العمر محاصراً بشعور خانق ومطبق بالغربة بعيداً عن العراق وبغداد التي ما أحب مدينة سواها.

وتغرّب محمد مهدي الجواهري وأسقطت الجنسية العراقية عنه أكثر من مرة ومات وهو في السابعة والتسعين من العمر ليدفن في مقبرة الغرباء في دمشق ليصفه فائق بطي في كتاب "عراقيون في الوجدان"، الصادر عن مؤسسة المدى العراقية بأنّه "كان عزيز النفس، يرفض أنْ يستلم أي مبلغ من المال، أو يحاول إستغلال مكانته الأدبية العالية، لغرض الحصول على هذا المال ... فأبى أنْ يقول حرفاً لا يؤمن به". ووقع الأكاديمي والروائي الشاب علاء مشذوب مضرجاً بدمائه وهو يقود دراجته الهوائية إلى بيته في كربلاء. ولم يصدر عن مظفر النواب شيئاً بصدد ضنك العيش وصعوبته ولم يطالب عريان السيد خلف الذي توفي مؤخراً برعاية إستثنائية. وهناك الكثير من الأمثلة التي لم تجد طريقها إلى العلن والإجهار حتى جاء منشور الفنان حسين نعمة ليثير موجة من التساؤلات والإنتقادات الحادة لشخصه وليضع موقف المثقف والفنان على وجه العموم على بساط البحث والتأمل. 

لم تكن رسالة الفنان حسين نعمة مفوهة ولا حتى رسالة بسيطة وبريئة بل كانت رسالة مشوهة ومباشرة ومطلبية. رسالة عرضت في منشور يهدد بالهجرة له ولعائلته إلى "وطن آخر"، ومناشدة للأخوة والأهل بدول الخليج العربي من أجل النجدة "تقديراً لموقعي الاجتماعي وعطائي الفني أكثر من خمسين عاماً ...". يذكر أنّ هذه ليست المرة الأولى التي يعبر فيها الفنان حسين نعمة عن موقف من هذا النوع. فقد أشار علي عبد الأمير عجام في كتابه "رقصة الفستان الأحمر الأخيرة"، أنّه قرر الإعتزال عام 2005 إحتجاجاً على "ظروفنا المعيشية السيئة"، غادر بعدها إلى دمشق ليعيد تسجيل عدد من أغنياته في دمشق ثم رجع إلى العراق، الناصرية. 

استحوذ الإهتمام بجوهر ما جاء في منشور حسين نعمة بشأن أوضاعه المعيشية على إهتمام الكثيرين مما أدى إلى المبالغة بتقدير أوضاعه المادية الخاصة. الحقيقة ومن خلال إستطلاع مصادر موثوقة عنه تبين أنّ الفنان حسين نعمة ليس ميسوراً أو متمكناً مالياً وأنّ ما ذكره عن أوضاعه المعيشية وبخاصة فيما يتعلق ببطالة أولاده ممن حصلوا على الشهادة الجامعية صحيح جداً. وهو لا يملك محال تجارية ولا يدير عدداً من الفنادق ولا يتقاضى راتباً تقاعدياً يزيد على رواتب أقرانه من عموم المتقاعدين. كل ما حصل معه أنّه أفتتح محلاً متواضعاً لبيع الكماليات في منتصف سبعينيات القرن الماضي عشية سطوع نجمه وشهرته كفنان على سبيل الإستثمار كلف أحد أقاربه بإدارته. وقد أطلق الأهالي إسمه على السوق تيمناً به وإحتفاءاً فكان أنْ عرف بإسم سوق "حسين نعمة" حتى اليوم وهو لا يملك بالحقيقة فيه شيئاً. بيد أنّ الإشكال الذي أثاره منشور حسين نعمة أنّه نحا نحو من يروم النجاة بنفسه وعائلته تاركاً جمهور محبيه ممن ينتشرون في عرض البلاد وطولها لمصير مجهول. وكان هذا أحد أهم الأسباب التي تقف خلف إتساع موجة النقد له بل وحتى التجريح. فقد تأسى هؤلاء على الموقف الذي بدا أنانياً لصاحب "يا نجمة" و"نخل السماوة" و"جاوبني" و"يا حريمة"، وغيرها من الأغاني التي علقت بالذاكرة الثقافية للإنسان العراقي. أغاني تحكي قصة عراقي يتدفق محبة ووفاءاً، يغازل النهر والسماء ويأخذ من نخيله وسحنة النساء فيه منطلقاً يعبر من خلالها عن ملاواته للظروف المقيدة والكاظمة للمشاعر والحريات. كان بإمكان الفنان حسين نعمة أنْ يتحدث عن معاناته كجزء من المعاناة العامة ليلفت نظر حكومة ومؤسسات دولة يفترض أنّها تعمل من أجل الصالح العام وقد تكون كذلك الا إنّها تستخدم طريقة الشخصي والخاص مما يحول دون أي نجاح يذكر لها. خذ دليلاً على ذلك ردة الفعل السريعة من قبل رؤسائها الثلاثة أو من يمثلهم في مكاتبهم إبتداءاً من رئيس الجمهورية ومروراً برئيس مجلس الوزراء ورئيس مجلس النواب. فقد إستجاب هؤلاء لمضمون المنشور كحالة خاصة بالفنان ووعدوا بحلول فردية قيل إنّ في مقدمتها إصدار أمر بتعيين أحد أبنائه وربما تقديم مساعدة مالية له إلى جانب لقاءات وصور تذكارية. هذه قضية ليست شخصية بالتأكيد بل عامة خاصة وأنّها أخذت من مواقع التواصل الاجتماعي وسيلة لبثها إلى جانب ما يمثله ناشرها من حضور مؤثر وعزيز في المجتمع.

ولعل اللافت ردة فعل الدولة والحكومة لهذه الرسالة التي أخذت صيغة الترضية والإقناع ليس غير. لم تهتز الدولة والحكومة لتظاهرات الآلاف من الشباب العاطل عن العمل في محافظات البصرة وذي قار وميسان والنجف وكربلاء والقادسية وواسط. بل عوّلت بدلاً من ذلك على الحل الأمني الذي لم يتوان عن إستخدام جبروته في مواجهة المتظاهرين العزل إلا من هتافاتهم ومناشداتهم الفردية فكان أنْ صار بعضهم قرابين للتضحية والفداء تمثلت بعدد من الشهداء تحدروا من عوائل فقيرة في الغالب. وبدلاً من أنْ تقوم الدولة بمعالجة مناشدة حسين نعمة بإعتبارها جزء من قضية عامة فقد إكتفت بترضيته وتطمينه شخصياً وهي سياسة تقوم على أساس خاطئ بالتمام والكمال وبخاصة على مستوى أبجديات العمل في إدارة شؤون الدولة والمجتمع بمقاييس الزمن المعاصر. لا ينجو تدريسي من النقد والعقوبة الإدارية إذا ما تمّ التأكد من تصرف مماثل كأنْ يخص طالباً دون أقرانه برعاية أو قرار إستثنائي من حيث أنّ الواجب والمسؤولية يستدعي إستخدام الطرق التي تحقق فرصاً متكافئة للجميع تحقيقاً للعدالة والإنصاف فكيف بمسؤول عن ملايين المواطنين!. أما دول الخليج العربي التي ناشدها الفنان حسين نعمة فلم تعد مولعة بالعطايا المجانية وليس لديها ما تكسبه منه في هذه المرحلة بالذات التي تحاول أنْ تعيد بناء الجسور المهدمة بينها وبين العراق على المستوى الرسمي. 

هل يغيب عن بال الفنان حسين نعمة والدولة والحكومة مشهد حشود من الأطفال والقاصرين والرجال والنساء المسنين وغير المسنين ممن يملأون تقاطعات الطرق في بغداد والمحافظات إستجداءاً للمال بصورة مباشرة أو غير مباشرة من خلال بيع المناديل الورقية أو السجائر أو بطاقات الهاتف النقال. يقدم هؤلاء بياناً مقروءاً من قبل الجميع وبمختلف الأصناف على مستوى التدهور المعيشي وإنتشار الفقر في العراق. وهل يخفى على أحد الفشل الذي يعاني منه النظام الحكومي القائم والذي يتمثل في عدد من الظواهر والتي يقف في مقدمتها الإمعان في الإعتماد على الثروة النفطية بنسبة 95% وعدم القيام بأي خطوة بإتجاه تطوير السياسات الاقتصادية لتنويع مصادر الدخل الأمر الذي يساهم بتضييق مجالات العمل وتعقيد مهمة تبني سياسات فعالة ومجدية لمعالجة البطالة التي تنخر بحياة الشباب من أقصى البلاد إلى أقصاها. بحسب السيد عبد الزهرة الهنداوي المتحدث بإسم وزارة التخطيط فقد أرتفعت نسبة المواطنين ممن تقدر أوضاعهم المعيشية عند خط الفقر في العراق أو دونه من 16% عام 2014 إلى ما يقرب من 23% عام 2016. أضف إلى ذلك الدور الذي لعبه الإرهاب وإشتداد المعارك في بعض المحافظات المتضررة الذي زاد من جسامة الظاهرة فكان أنْ بلغت نسبة المواطنين عند خطر الفقر 31% في محافظتي ديالى وكركوك وسائر المحافظات الجنوبية وبضمنها البصرة فيما قدرت نسبة المواطنين في خط الفقر أو دونه بـ 13% في أقليم كردستان. وخذ ما فعلته حركة النزوح التي ترتبت على هذه الأوضاع والتي أخرجت قسراً ما يقدر بثلاثة ملايين عراقي من ديارهم لتوسيع دائرة خط الفقر هكذا على حين غرة. 

رسالة الفنان حسين نعمة رسالة عن كل هؤلاء المتضررين والمفقرين ممن يتحتم على الدولة والحكومة الإلتفات إليها ليس بطريقة العلاج الفردي والشخصي وإنّما بطريقة تبني السياسات التي تكفل العدالة للجميع. إنّها رسالة إنذار مبكر لما يمكن أنْ يترتب على الشعور بالفاقة والحاجة في مجتمع يشهد تفاوتاً طبقياً متسارعاً وبدون مراعاة لمقومات التقدم والإرتقاء. فالإستمرار بتخريج أعداد كبيرة من الشباب الجامعي المؤهل ممن لا يجد فرصة مواتية لإستيعاب طاقاته وإمكاناته وإهمال الشرائح الأخرى وتركها نهباً لآفات التحجر والجهل من خلال الفشل في توفير فرص للتطور والنماء كفيل بقلب الطاولة على عقبيها. إذا كان هذا هو واقع الحال اليوم وحجم السكان لم يتجاوز بعد الأربعين مليون نسمة فكيف به إذا بلغ الخمسين مليون نسمة بحلول عام 2030 بحسب تقديرات سكانية مستقبلية!

المدى 

AM:03:28:10/02/2019