صيف "الفيسبوك"
محمد عارف

«الإنترنت» لم يكن معروفاً باسم «الإنترنت» عندما حدثني عنه أول مرة في حزيران عام 1989 أحد أبرز علماء الرياضيات في القرن العشرين، العالِم اللبناني البريطاني «مايكل عطيه» الحاصل على جائزة الملك فيصل العالمية في العلوم، وعلى وسام «فيلدز» في الرياضيات، المعادل لـ«نوبل». سألتُه عن أهم نصيحة يقدمها للعلماء العرب، فقال: «استخدام الوسائل الإلكترونية الحديثة للاتصال اليومي بين العلماء تجعل العملية العلمية مناقشة كثيفة متواصلة يتم إنتاجها وتبادلها باستمرار».

وخلال الثلاثة عقود الأخيرة ستنتج هذه العملية «الإنترنت» و«الشبكة العالمية» WWW و«فيسبوك»، ورديفه «ميسنجر»، و«تويتر»، و«واتساب»، و«انستغرام»، و«سكايب»، و«يوتيوب».. وما لا نهاية له ممّا تُسمى «وسائل الاتصال الاجتماعي» التي تقيم لكل من يملك عنواناً إلكترونياً مواقع عامة أو خاصة، مفتوحة أو مغلقة، تنقل رسائل فورية، مكتوبة، أو منطوقة، أو مصورة، أو لقطات فيديو.

وأحلمُ بوسيلة «شَمّ» تحمل لنا أينما نكون شذى زهور الليمون، التي يسميها العراقيون «القِدّاح»، أو شذى زهور «الرازقي»، أو «الجوري» البغدادي، أو الياسمين، أو النرجس، أو شذى من نحب كيفما وأينما يكونون. ولِمَ لا؟! فمن كان يتصور أن يقوم محرك البحث «غوغل» بنحو 55 ألف عملية بحث في الثانية الواحدة، وأن تُرسل في الثانية الواحدة 8 آلاف تغريدة، و126 ألف لقطة فيديو عبر «يوتيوب»، وفي كل ثانية يؤسس 20 ألف شخص صفحة «فيسبوك»، وتُرسَلُ ثلاثة ملايين رسالة إلكترونية «إيميل» أكثر من نصفها «غير مرغوب فيها»؟!

و«مخالب (فيسبوك) تمتد أبعد مما نتصور»، عنوان تقرير محرر «البيزنيس» في «بي بي سي»، وفيه يذكر أن حجم معلومات «فيسبوك» يجعله «واحدة من أكثر المنظمات نفوذاً في العالم». وينقلُ عن «فلادان جولر»، رئيس مختبر «شير لاب» في بلغراد، أن ملايين الناس الذي يستخدمون «فيسبوك» يعملون في الواقع أُجراء في شركتها، عندما يُحَمِّلون شيئاً، أو يتصلون بأحد، أو يعلقون على حدث. فالمعلومات التي تنقلها رسائلنا تُغذي «خوارزميات» معقدة تُشّغل «فيسبوك»، حيث يتحول سلوكنا إلى منتجات ترسم خارطة تصرفاتنا، واهتماماتنا، وعلاقاتنا. ومختبر «شير لاب» سعى لاستكشاف ما تحت طاقية خوارزميات «فيسبوك»، وذلك لتحقيق «فهم أفضل للهيكل الاجتماعي للشركة وعلاقات القوى داخلها». وأعلن أن استكشاف ذلك مهمة مستحيلة. فشركة «فيسبوك» الناشئة (13 عاماً) تملك معلومات تعادل 300 «بيتابايت»، و«بيتابايت» يعادل واحد وإلى يمينه 15 صفراً، وعدد مستخدميها ملياران، وقد حققت العام الماضي فقط إيرادات بنحو 28 مليار دولار. مؤسسها «زوكربرغ» أعلن وهو صبي تَخلّيه عن دينه اليهودي، وتحوله إلى الإلحاد. وعاد أخيراً لمباركة الأديان، البوذية خصوصاً.

شرعتُ بهذا المقال للكتابة عن أصدقائي في «فيسبوك»، بعضهم أصدقاء الطفولة، وكان عثوري عليهم معجزة، بينهم مظهر حلاوي، زميلي في مجلة «السينما» في بغداد، حيث كنت أنشر أول قصصي القصيرة، وكان هو يكتب عن السينما، وتحوّل فيما بعد إلى دراسة الاقتصاد في «جامعة لندن»، وأسس «مصرف الخليج التجاري» في بغداد. وآخرون تعرفتُ عليهم أول مرة في «فيسبوك»، بينهم «علي حسين» الذي ينشر في «فيسبوك» ، وفيها لا يستثني أحداً من انتقاداته المريرة اللاذعة والفاضحة بالوقائع والأرقام لمرجعيات دينية، ورؤساء الجمهورية والحكومة المتعاقبين، ونواب البرلمان، وحتى القضاء الذي أصدر بحقه مذكرات اعتقال ومَنْع من السفر. وأُدركُ الآن أن مجرد ذكر أسماء أصدقائي في «فيسبوك» مستحيل. «فيسبوك» صيف البشرية، حين ندرك فجأة استحالة العيش من دون الناس. وكما قال الأديب الفرنسي «أندريه جيد»: «عليّ التمتع بزهور هذا الصيف، زهرة فزهرة، كما لو كانت آخر زهرة لي». فيا أصدقائي في «فيسبوك» أنتم زهوري، زهرة فزهرة.
*مستشار في العلوم والتكنولوجيا
 عن: "الاتحاد" الظبيانية

AM:08:26:25/07/2017