رثاء متأخر.عارف علوان الكاتب الأنيق .. وشيخ رواد العزلة
قــاسم مـحـمـد غـالي



فقدت الجالية العراقية في بريطانيا واحداً آخر من مبدعيها، الكاتب المسرحي والروائي عارف علوان، الذي اختطفه القدر، بعد معركة مع المرض الخبيث. توفي في مدينة ليدز الواقعة في وسط انكلترا حيث اعتزل فيها منذ سنوات تاركاً صخب لندن وضجيجها.

يتساقط من حولي، بل من حولنا، الأصدقاء والرفاق، الواحد تلو الآخر، وهم يعانون أشد أنواع الألم والصراع مع الأمراض تارة أو الشيخوخة، تارة أخرى، بينما يحصد الموت العبثي الكثير من العراقيين في داخل البلاد التي تحولت الى جمهورية "الموت" حقاً وحقيقة، على غرار وصف الكاتب المعروف كنعان مكية لجمهورية صدام حسين المرعبة (جمهورية الخوف) هذا المشهد بدأ يخيفني، ويقلقني في ما تبقى من أيامي، وكأنها معدودة.

لم أتمكن من رؤية عارف منذ سنوات، وانقطع التواصل بيننا. لا أدري بالضبط السبب، لكن هذا ما حصل. جاء خبر رحيله ليشكل صدمة أخرى بالنسبة لي. كانسان، فهو رائع ولطيف العِشرة وجميل المزايا والخلق. هادىء الطباع وصبور وكثير الأناقة والحرص على مظهره ولباسه. ومن سجاياه التواضع الجم والصراحة واحترام الآخرين.

تعرفت عليه في لندن، عن طريق الصديق أمين العيسى، هذا الإنسان، هو الآخر من روائع البشر وأجمل العراقيين، الذي تعجبك خلقه وتجذبك طيبته وشخصيته الهادئة. كنت أزور عارف في شقته المتواضعة في منطقة "اكتن" الواقعة في غرب لندن، ولفت انتباهي اهتمامه بالزهور وزراعتها في حاويات صغيرة، وخصص الجزء المفتوح من الكليدور لهذا الغرض، حيث تحول الى حديقة صغيرة لا تتسع سوى لكرسيين. في هذا الجزء من شقته، كان يحتسي قهوته صباح كل يوم. عادة (لبنانية) مكتسبة لا علاقة لها بالعراق وطباع العراقيين.

عارف علوان، من الأسماء المهمة في الكتابة المسرحية، ربما يكون من أبرع كتاب المسرح في العراق، وهم قلة مقارنة بغيرهم من الروائيين وكتاب القصة والفنون الأدبية الأخرى. وهو روائي مُجيد وكاتب قصة مبدع. وتتميز محاولاته بالتفكير الحر، وعمق الرؤية، وجمال اللغة والتعبير. والشيء الآخر الذي جذبني في كتاباته، هو آراءه الجريئة، ونزعته الانسانية، وميوله التقدمية، ونصرته لقضايا الانسان وهموم البشر. كتب أشياء جميلة ومهمة، لكنه لم يحظ بالرعاية او الاهتمام الذي يستحق، شأنه في ذلك شأن الكثير من المبدعين العراقيين.
خاض عارف تجربة حياة صعبة، وتعرض لظروف قاسية، اضطرته الى اختيار المنافي، فمن العراق الى لبنان ومنها الى ارتيريا، فالصومال ثم ايطاليا، الى أن انتهى به المطاف للإقامة في بريطانيا. انعكس ذلك في أكثر كتاباته. 

عمل معي في إذاعة "الحرية" حيث كان يعدّ برنامجاً عن أحوال العراق المدنية وانهيار نظم التعليم والقضاء والصحة والرعاية الاجتماعية في التسعينيات بسبب العقوبات المفروضة على العراق ونهج النظام الحاكم وأساليبه في التعاطي مع المجتمع الدولي. واعتمد عارف على معلومات نشرتها الأمم المتحدة في تقرير بهذا الخصوص. وحظي برنامجه الذي أعدّه من ذلك التقرير باهتمام جيد. وقدم أشياء مفيدة للعراقيين في الداخل كانوا بحاجة ماسة لها. وشارك في تحريرعدة كراسات صغيرة حول الديمقراطية وحقوق الإنسان صدرت عن المعهد العراقي في واشنطن الذي تترأسه السيدة رند الرحيم.

وساهم أيضاً في حملة الكاتب المعروف كنعان مكية "الانسانية" ضد جمهورية "الخوف" التي شيدها البعث في العراق بعد عام 1968، دون أن يدرك إن بعض ضحايا صدام لا يقلون وحشية عن صدام فاشادوا ما يمكن تسميته ب "جمهورية الموت" إذ تمكنوا في وقت قصير نسبياً من تقسيم أهل العراق الى ملل متنوعة وطوائف متنافرة ومذاهب متعددة وجماعات مسلحة تقتل بعضها البعض دون رحمة. كان عارف علوان يقول إن هذا "الرعب" مصدره الجهل والاميّة التي تفشت في العراق بعد انطلاق "الحرية" من عربات الهامر الاميركية.

ويقول: العراقيون لا يعرفون الحرية، فكيف نطلب منهم أن يتذوقوا طعمها. لعارف آراء مثيرة كثيرة، وطرح أفكاراً غاية في الجمال فوجئت بها، عندما اطلعت على بعضها في موقعه الخاص على الشبكة العنكبوتية. أفكار كثيرة لست في صدد استعراضها، لكنها تستحق الاهتمام، فهي تعكس جوانب مهمة من المأساة العراقية الراهنة، ولا تخلو من اضاءات بعضها الساخر، وبعضها جاد مثير للألم والحزن.


المدى


AM:01:42:10/02/2018