بعد 15 سنة في الجزيرة.. ‌هل حان وقت تركها؟!
أحمد الزاویتي


في "السادس عشر من مارس-آذار" أنهي خمس عشرة سنة مع الجزيرة، تلك المسيرة التي بدأت عام 2003، لم يكن متوقعا لها أن تستمر طوال هذه المدة، حتى دخلت عقدي الخمسين.. كم كانت مهمة صعبة؟! كأنني دخلت مغامرة غير محمودة العواقب! فهي المَشيُ وسط حقلِ ألغام.. وقتها لم تكن الجزيرة مرغوبة فيها كُرديا، وأنا الإعلامي الكُردي الذي كان حينه بلا ظَهرٍ ولا سَندٍ في كُردستان، ليس كما الإعلاميين الكُرد الآخرين، حيث تدعمُهم أحزابٌ وسلطةٌ ومالٌ..

 

‌أما الجزيرة كانت وقتها كما أي قناة عربية غير مهتمة بالقضية الكردية إلاّ كخبر، ولسوء حظ هذه القضية فخبرها دائما هو المشكلة مع محيطها العربي، التركي، الفارسي.. دُولٌ لها انظمتها السياسية القوية ومؤسساتها الإعلامية الضخمة، التي جعلت كُردستان في موصوفاتها الإعلامية كما "إسرائيل ثانية.."! فكيف بي أخوض بحرا متلاطم الأمواج وأنا الضعيف والآخرون أقوياء..؟!


المغامرة..
كان عليّ خوضُ مغامرةٍ لتعديل طرفي نقيض في معادلةٍ تحقيقها غايةُ الصعوبة، سأكون العامِلَ المشترك بين أشهر وسيلة إعلامية عربية وهي "الجزيرة" غيرُ مرغوبةٍ كرديا كما أشرت، وفي الطرف الآخر "كُردٍ" لا يَجدون قضيتَهم على شاشاتٍ عربية إلا مشوّهة حتى ولو كانت الجزيرة ـ حسب القناعة الكُردية - وواجبي أن تكون: "الجزيرة في كوردستان، وكوردستان على شاشة الجزيرة".

 

حتى ذلك الوقت كان لفظ كُردستان العراق لا يجد طريقه إلى الشاشات العربية، فهو الشَمال العراقي وليس كُردستان.. لا أخفيكم أن صعوبة المهمة جعلتني في أول يوم لاستقبالي وضاح خنفر مراسل الجزيرة القادم لتغطية الحرب الأمريكية المتوقعة على العراق أواسط مارس - آذار عام 2003، أفكر بالتراجع عن العمل نتيجة الاختلاف الشاسع بين فَهمَينا المختلفين للواقع في كُردستان والعراق وما سيحصل من تطورات، وتغطية الجزيرة لمواضيع قد تكون تنفيذها مستحيلا في كُردستان في نظري.. ذلك بعد حوار ونقاش دار بيننا..

 

هي حقيقة أذكرها لأول مرة، لكن ما منعني عن التراجع هو فقط "الوفاء" بعدم ترك وضاح لوحده بل الصبر معه حتى تكملة مهمته، وبالتدريج أصبح كلانا يتفهم الآخر هو يتفهم كُردستان وأنا أتفهم الجزيرة.. كانت تلك البداية، لم أكن قد بدأت مع الجزيرة كمراسل، أعقبت تلك البداية مرافقتي لجميع موفدي الجزيرة إلى كردستان لمدة ستة أشهر، حيث كانوا يتوافدون مراسلا بعد آخر.. وكانت نفس قصتي مع وضاح تتكرر معهم..

 

أنا الهارب..
أنا كنت كما الهارب من إعلام كُردستان، أو بالأحرى الملفوظ الذي لم يجد له موقعا فيه، لأجد الجزيرة.. عندما دخلت استوعبتني.. عندما تعينت فيها طَورتني.. باختصار مع الجزيرة كانت هذه قصتي: "تحملتني الجزيرة مع كل ما فيَ من موقف سلبي تجاه كل ما هو عَدوٌ للكُردي عربيا كان أو غيرَ عربي.. قبلتني بكل ما أحمل من "الكُردايَتي" حتى درجة العنصرية والشوفينية التي يتهمني بها بعض من غيرِ الكُرد.. 15 سنة في الجزيرة، لم تُوَجِهني إتجاها معينا، ولم تتدخل في قناعاتي الفكرية والانتمائية..

 

15 سنة كنت أنا المُزعِجُ للجزيرة أكثر من أن تكون هي مزعجةً لي، ولفترات حساسة من التغطيات كان كلانا مزعجاً للآخر..15 سنة، وما أدراك ما هي هذه الـ (15) سنة؟ حيث كنت فيها "كُردستان في الجزيرة" وليس العكس.. باختصار 15 سنة وأنا أتحرك وسط حَقلِ الغام".

 

أنا مراسلا..
أول تجربةٍ عملية لي مع الجزيرة كمراسل لتغطية حدث، كان ذلك اليومُ الأسود: "تفجيرٌ انتحاري مزدوج" لمقري الحزبين الرئيسيين الديمقراطي الكردستاني والإتحاد الوطني الكردستاني - عيد الاضحى المبارك الأول من فبراير - شباط عام 2004، حيث قُتل أكثر من مائة شخصٍ غالبيتُهم كانوا قياديين في الحزبين، وبعضُهم مسؤولون كبار في الحكومة بينهم نائب رئيس مجلس الوزراء سامي عبد الرحمن..

كنت في عطلةِ العيد في دهوك وقتَها، عُدت فورا للتغطية.. عملتُ تقريرا، كان الأول لي على حدث بهذا القدر من الضخامة، كنت عملت قبل ذلك تقارير كانت اقرب للفيجرس (قصص) منها للأخبار، رغم أن التقرير كان أقرب من إسلوب التقارير المحلية منها لتقارير الجزيرة، حيث لم يخل من عاطفةٍ تجاه الضحايا، وانحيازٍ بالضِد من المنفذين، لكنه واجه ضَجة كبيرة في كُردستان لأنني لم أقل شهداء! كما بقية الإعلام الكُردي! وهو نفس النقد الموجه لنا في تفجيرات كثيرة أعقبت تلك في كردستان، وفي حرب البيشمركة ضد داعش مؤخرا..

 

لكن ما كان مهما بالنسبة لي هو أن أستمر وفق قناعاتي الصحفية، ووفق ما أؤمن به، وأواجه التحديات، فالقتيل أيا كان لستُ أنا من يجعله شهيدا أو لا، فحتى رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يصفه الله سبحانه بالشهيد عندما احتمل له القتل فجاء في القرآن الكريم: (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ ۚ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَىٰ أَعْقَابِكُمْ ۚ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا ۗ وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ) -144- آل عمران.

                    

بدأت تقاريري تتلى وظهوري يزداد وبالمقابل مصاعبي تكثر، بعضها حسداً ومنافسة لي وأنا في الجزيرة، كما حصل مرة من مراسلة الحرة سابقا والبرلمانية حاليا في بغداد "سروة عبدالواحد" عندما تحدثت علنا وامام الصحفيين إلى حراس وزراة الداخلية في اربيل والذين كانوا يفتشون الصحفيين بان يمنعوننا من الدخول فنحن الجزيرة ارهابيون!! وذلك بعد عملية انتحارية استهدفت الوزارة، حينها حصلت بينها وبين مصوري (صلاح علي) مشادة كلامية.. وبعضها كُرها للجزيرة وما أكثرها!

 

فاعتقلنا متعرضين للضرب مع وضاح خنفر في السليمانية عام 2003، وتعرضت أنا لضرب مبرح سنة 2005 من قبل قوات الأمن في اربيل أدخلت على اثره المستشفى و في دهوك ايضا عام 2011 تعرضت للضرب من قبل ضباط تابعين لقوات الزيرفانى.. وهكذا..

 


عالم حزب العمال الكُردستاني..
فكرت في تجاوز الطابع المحلي كمراسل للجزيرة، فكرت بدق أبوابٍ لم يدقها من قبلي صحفي، لم يكن غير حزب العمال الكُردستاني خيارا، كان حتى ذلك الوقت عالما مجهولا على الإعلام العربي، فبدأت أظهر من ثنايا جبال قنديل واعرض خفايا عن حياة رجال الجبل، أو كما سَميت بعد ذلك أول فلم وثائقي لي بـ(دولة الجبل) في وقت كان الجميع يتجنب تناول ملف الحزب، تطلب عمل الفِلم قضاء 10 أيام في الثلوج في مواقع الحزب في الجبهة الأمامية لهم مع الجيش التركي، أو ما يسمى بـ (الزاب).. أظهر الفلم كيف يمكن للإنسان أن يصبح جزءا من الجبل..

 

قال بحقه أحد قياديي الحزب: "لو لم تعمل غير هذا لكفاك! فقد أظهرتنا بأننا لسنا إرهابيين وهذا يكفي.."، هذا كان رأيه، أما رأي فهو أن أقول الحقيقة الظاهرة أمام عدسة كامرتي.. يعرف حينه زملاء مكتب الجزيرة في أنقرة وعلى رأسهم الزميل يوسف الشريف الضغوطات التي عملها الجانب التركي عليهم بسبب الفلم.. بعد أشهر من بث الفلم، جاء صاحب الدار الذي كنا مؤجرين منه، في حي مفتي بأربيل، وطلب زيادة 50 دولار على الإيجار، لم أكن موجودا، فقالت له زوجتي:

- لماذا تزيد علينا الإيجار، ألا يعتبر 350 دولار كثيرا لهذا الدار؟! ليس بامكاننا دفع هذه الزيادة..

رد صاحب الدار:

- قل لزوجك، هو بإمكانه أن يجلب القوات التركية على حدود إقليم كردستان، وليس بإمكانه دفع 350 دولار!!

 

عملت بعد ذلك فلما عن ملا مصطفى البارزاني قصة ثورة وعلاقة قيل بحقه إن الحزب الديمقراطي طوال 50 سنة لم يتمكن من عرض حقيقة مؤسسه ورئيسه الزعيم الكُردي ملا مصطفى البارزاني للمشاهد العربي كما عرضه الفِلم..

 

وعملت مؤخرا فلما عن: (كردستان ما بعد 100 سنة من سايكس بيكو) لتكون كاميرتنا هي الاولى ـ على الأقل عربيا ـ تتجول في معقل أول جمهورية كردية (مهاباد) والتقت بابناء قاضي محمد رئيس تلك الجمهورية، وفي آمد (دياربكر) وفي كوباني وسنجار وكركوك، وتناول الفِلم ملف مقاومة كوباني ضد داعش ومقاومة البيشمركة ضد داعش، وأظهر الفِلم أن القضية الكردية في الدول الاربع واحدة حتى ولو اختلفت في الشكل، واستنتج الفلم أن اتفاقية سايكس بيكو وضعت خطوطا على جسم كردستان لكن هذه الخطوط لم تتمكن من تقسيم القضية، فالبيشمركة يقاتلون في كوباني جنبا الى جنب وحدات حماية الشعب، وحزب العمال يقاتل في سنجار جنبا الى جنب البيشمركة، ومسلحون كُرد ايرانيون يقاتلون مع البيشمركة في خرابروت بكركوك، وسابقا قبل ثمانين سنة كان ملا مصطفى البارزاني في مهاباد..

 

أما ملف (الكُرد دروب التاريخ الوعرة) فهو الأكبر والأوسع والأشمل عالميا عمل على القضية الكردية في موقع غير كردي، صرفت عليه الجزيرة جهودا كبيرة، ولا يزال الارشيف شاهدا. لا أتحدث عن مئات التقارير التلفزيونية التي عملت بنَفَس كردي واضح: سياسيا، فكريا، ثقافيا، اجتماعيا، فنيا، اقتصاديا.. ناهيك عن مؤتمرات عن القضية الكُردية على المستوى العالمي في الدوحة، في مركز الجزيرة للدراسات، شارك فيها كُرد من الاجزاء الاربعة وكذلك ممثلون عن انظمة الدول الاربعة ومفكرون عرب وترك وفرس وغيرهم..


مع الجزيرة منذ 15 سنة، قبل تلك الفترة كان عمري 37 سنة، حتى ذلك الوقت لم يعطيني أي وسط أو مؤسسة كردية وغير كردية ما أعطتني الجزيرة عِلما ومعرفة.. عملا ومهنة.. مادة ومعنى.. وقبل كل ذلك فرصة لإبراز قضية قومي..

 

يجب أن نعلم: أنا لست مالكا للجزيرة، ولا الجزيرة مالكة لي.. انا المسؤول في إطار مهامي مع الجزيرة، وفي إطار مساحة عملي، وفي إطار ما أعمله للجزيرة، لست مسؤولا عن كل شاردة وواردة فيها، فهي الشبكة العربية العملاقة، وافتخر بأنني وجدت لي في ذلك المركب عن موطأ قدم بجهدي الذاتي..

 

الجزيرة ليست حزبا سياسيا او نظام حكم، ولا أنا كذلك لأعلن عن موقفي منها.. هي مؤسسة عمل وأنا موظف فيها.. ما أملك من نقد للجزيرة أوجهه للمختصين فيها، وعن طريق القنوات الأصولية، وذلك للتدارك والمعالجة إن تطلب ذلك، لا أعلن عن هذا النقد في غير محله كما الفيسبوك، وكم كان لي من نقد لها!! بعضه فُهِم وبعضه فَهَمَتني هي.. لجان تحقيق تشكلت أحيانا! بعضها لصالحي وبعضها ضدي وتجاوزتها جميعا ولا أزال، فهي معمعة عمل وليس نزهة سياحة.. أو كما قلت حركةٌ وسط حقل ألغام.. خلال تجربتي لعقد ونصف العقد مع الجزيرة وصلت الى قناعة وهي: كم يفتقر الكُرد الى وجود كوادر لهم في مؤسسة كالجزيرة وأشباه الجزيرة!!

 

مرة قلتها للسيد رئيس الإقليم سابقا "مسعود البارزاني"، قلت له: إن الكُرد بحاجة لوضع خطة استراتيجية واضحة لإرسال كوادر مؤهلة لهم إلى المؤسسات الإعلامية العربية العملاقة كالجزيرة وأمثالها، وقد استحسن الفكرة كثيرا.. أما مَن امثالي من وصل إلى مثل هذه المؤسسات وعددنا لا يتعدى اصابع اليد الواحدة، فقد وصلنا إليها دون تخطيط وتوجيه، تمكنا من فعل شيء، لكنه القليل بحق ما يحيط بقضيتنا الكُردية من ملابسات وغبار التشويه عليها لسنوات طويلة..

 

وردا على من يسأل ألم يحن وقت تركك للجزيرة؟! أقول: "في اللحظة التي أشعر فيها بأنه ليس بأمكاني تقديم المزيد، ووجودي وعدم وجودي في الجزيرة سواء، أو إذا علمت أن لوجودي في الجزيرة ضَررٌ لقضية قومي، فإن ترك الجزيرة بالنسبة لي كشرب كوب ماءٍ باردٍ وقت العطش في حرّ الصيف..".

الجزيرة

AM:01:40:18/03/2018