الصحافة المهنية وصحافة البروباغاندا
جودت هوشيار
في سنة 1852 كتب رئيس تحرير جريدة " التايمز" اللندنية يقول : " ان الواجب الأساسي للصحافة هو الحصول على أحدث وأدق المعلومات عن الأحداث ونشرها على الفور ، بحيث تصبح ملكاً للأمة بأسرها ." ورغم مرور ( 166 ) سنة على هذه المقولة فأنها ما زالت صحيحة وتشكل حداً فاصلاً بين الصحافة المهنية الناضجة وبين أنواع أخرى عديدة من الصحافة اللامهنية ، وأصبحت أكثر أهمية في عصر عولمة الأتصالات ، التي أتاحت نشر أحدث المعلومات لحظة بلحظة عبر وسائل تقنية متطورة .

فالمحك الحقيقي لأية صحافة ، هو مدى دقة ومصداقية المعلومات المنشورة ، فالصحافة الجيدة ، تتحرى الحقائق وتتأكد من مصادرها ، وتثقف جمهور القراء بما تنشره من تحليلات وآراء وتحقيقات وأستقصاءات .


الصحافة المهنية بمفهومها الحديث ، هي تلك التي تلقي الأضواء على ما يحدث في المجتمع والعالم من احداث وتطورات أولاً بأول وبكل موضوعية وتراقب الأداء الحكومي وتكشف عن مكامن الخلل فيه ، ليس من أجل النيل منه ، بل في سبيل لفت أنظار الحكومة والرأي العام اليها وتنشر التحليلات المتعمقة والمفيدة لوجهات نظر متباينة وليس لوجهة نظر واحدة ، صحافة شفافة تحترم جمهورها وتلتزم بالمعايير الأخلاقية والقانونية للعمل الصحفي وتراجع أعمالها وتصحح مسارها اذا دعت الحاجة الى ذلك .

الصحافة المهنية وليدة الديمقراطية ، نشأت وتطورت مع نشؤ وتطور الديمقراطية الغربية وفصل واستقلال السلطات التنفيذية ، والتشريعية ، والقضائية عن بعضها البعض . ومن دون وجود هذه السلطات الثلاث المستقلة لا يمكن تصور وجود صحافة مهنية حرة ومستقلة.
هذا الفصل بين السلطات أمر جوهري للغاية . ففي النظم الشمولية هناك سلطة واحدة فقط هي السلطة التنفيذية ، التي تهيمن على السلطتين التشريعية والقضائية ولا توجد صحافة حقيقية ، وان وجدت فهي ( بروباغاندا ) أو دعاية سياسية لرأس النظام وللحزب الحاكم .
هكذا كان الأمر في ألمانيا الهتلرية و روسيا الستالينية والعراق الصدامي وليبيا القذافي، وهذا هو حال الصحافة اليوم في معظم الجمهوريات السوفيتية السابقة وفي روسيا البوتينية نفسها.
الصحافة بالمفهوم العلمي لهذا المصطلح لا يمكنها ان تعيش الا في أجواء الحرية والشفافية والعلنية.

ففي ظل النظام السوفييتي كانت ثمة ( صحف ) تتباهي بأنها تطبع وتوزع ملايين النسخ يومياً ومنها صحيفة ( البرافدا ) أي ( الحقيقة ) التي كانت تعتبر نفسها الصحيفة الأكثر توزيعاً في العالم . وعندما كنت في موسكو خلال الستينات من القرن الماضي وفي زياراتي التالية لها، كنت أرى وأسمع غالبا كيف يتهكم القراء الروس على صحيفة ( البرافدا – الحقيقة ) قائلين : ان " لا حقيقة في صحيفة الحقيقة " ولم تكن الصحف السوفيتية الأخرى الا تنويعاًت على ما تنشره ( البرافدا ) ولا أحد من الصحفيين السوفييت – وبينهم عدد كبير من الصحفيين الشرفاء المخلصين لمهنتهم والذين بلغوا مرتبة رفيعة من الأحترافية - كان قادراً على قول الحقيقة كما هي ، وان فعل ذلك ، يفصل من وظيفته أو يلقى به في غياهب السجون . وفي أفضل الأحوال كان مصير ما يكتبه الى سلة المهملات

في الثمانينات من القرن الماضي ، قال لي صديق بولوني مثقف كان مديرا لمكتب شركة ( بول سيرفس ) البولونية في العراق - وهي الشركة التي وضعت التصميم الأساسي لمدينة بغداد - وكان يتابع بحكم وظيفته ما تنشره الصحافة العراقية ، قال لي هذا الصديق : " أنا لا أفهم لماذا لا تصدر الحكومة صحيفة يومية واحدة فقط توفيراً للجهد والمال ، لأن الصحف اليومية الخمس التي تصدر الآن ، متشابهة المحتوى تماما ولا تختلف الا من حيث الشكل والأخراج ، وكلها تتحدث عن صدام و تزين صفحاتها الرئيسية بصوره ..

وصفوة القول ان التعددية السياسية والفكرية وحرية الرأي والتعبير ضرورية للصحافة المهنية كالهواء للأنسان ولا قيمة لصحافة لا تستطيع قول الحقيقة .

صحافة ( البروباغاندا ) بكافة أشكالها وصورها ، صحافة تعتاش على التضليل المتعمد للجمهور وحجب او تشويه الحقائق وتجميل النظام الشمولي الحاكم وتلميع صورة القائد الضرورة أو الأخ الأكبر- حسب اورويل - وتبرير افعاله مهما كانت شنيعة .

هذا النوع من الصحافة ليست مقصورة على الصحافة الرسمية للأنظمة الشمولية ، بل تشمل الصحافة الأهلية المنحازة وصحافة المعارضة المؤدلجة خاصة في بلدان الشرق الأوسط ، عندما تنتهج خطا ايديولوجيا واحدا ومحددأً وتفسر كل شيء بمقتضاه ، ولا تنشر الا ما يؤيد وجهة نظرها ، متجاهلةا الآراء الأخرى . وتنتقد السلطة بأستمرار وتتحامل عليها ولا ترى الا جانباً واحداً من اعمالها ، وهو الجانب السلبي.

مثل هذه الصحافة تدعي الأستقلالية بذريعة أنها غير تابعة للدولة . ولكن استقلالية الصحافة لا تعني فقط عدم تبعيتها للدولة او جهة ما ، بل عدم انحيازها في سياستها التحريرية.
ونرى أحيانا ان الصحافة الحزبية الجادة ، أكثر موضوعية من بعض الصحف التي تدعي الأستقلالية ، لذا فأن تقسيم الصحافة الى صحافة حكومية أو حزبية وصحافة أهلية (مستقلة) ، أمر غير صائب ، لأن المحك الحقيقي للصحافة هي مدى الألتزام بالمعايير المهنية والأخلاقية للصحافة .


AM:04:49:28/04/2018