من يومياتي 1
زهير الجزائري
نفير عام!

لم نسمع الصوت الأجشّ البارد الذي أمر المدافع بأن تدوّي،ولم نرَ الفارس الذي قطع السهوب لينذرنا: نفير عام! النذير استحال إلى رسائل مشفّرة تخرج من أجهزة الإرسال، تمر عبر الأثير فتدخل نوافذنا دون أن تنقر الزجاج أو تزيح الستائر، ومن دون أن تكسر عادات البيت المستغفل بحيّل الحياة. مأثرة الحرب الجديدة هي المباغتة وسر انتصارها هو أن تأخذ الحياة على غفلة.

تعثرت الكلمات بين المتفاوضين فبدأت المدافع تقول كلمتها. في غرفة القرار تقلصت الجمل إلى مبتدأ وخبر، فاعل ومفعول به. جمل آمرة لأجساد مهيأة للتنفيذ. استيقظت فجراً على هدير زلزال متصل، قصف لا مثيل له، زَحِفَ بتسارع ودأب من خطوط التماس نحو منطقتنا.قصف هذا اليوم كان مختلفاً تماماً.. لا انقطاع فيه بين القذيفة و الثانية، إنما كانت الانفجارات متصلة. قبل أن يتلاشى عصف القذيفة، تدبٌّ القذيفة الثانية، فيصعد صوتها من الأرض كموجة اهتزاز ترتفع الينا عبر عظام الجسد.

في المرات السابقة كنّا نعرف أية بناية أصيبت، ونتصور صراخ الأطفال، والنسوة الهلعات خرجن الى الشارع من قلب الحريق.. هذه المرّة شلت القذائف خيالنا بايقاعها المتصل. القصف العشوائي لا يستهدف أحدا، أي إنه يستهدف الجميع. وهو القصف الأمثل لتحويل الحياة إلى محض صدفة. قذيفة تسقط هنا وقذيفة هناك وعلى الخيال أن يردم الفجوة بين قذيفتين وبين قتيلين..لا مجال للإفلات، فالموت ماثل في كل لحظة وفي كل بقعة.الحياة نفسها مستهدفة بالقصف العشوائي.

كنا ثلاثة في شقتي الصغيرة في الفاكهاني، كاتبان وبائعة الورد التي لجأت إلينا من شقتها التي تواجه فوّهات المدافع. سكرّنا في ممر ضيق بين الغرف لنصل إلى النوم الذي لا تقطعه إلا قذيفة في الرأس تماماً. قبل أن أنام وبانتظار القذيفة الأولى حرت بهذا الجسد العالق بي وأنا أجره خلفي حائراً به. أتخيل زعانف القذيفة وقد أنشبت أسنانها فيه. خيالي الديني تغلب على الخوف من الموت. أنا ابن مدينة الموتى، أقول لنفسي مهدئاً، ما يخيفني هو الألم. أحاول أن أفلت من هذا الجسد الثقيل الوطأة باحثاً عن فكرة تبعدني عنه، لكنه عالق بي كما أنا عالق به. أحاول أن أفكر بمصائر الآخرين و أصنّف نفسي بمقارنتها بناس عرفتهم، لكن الجسد الممسك برقبتي يقول لي بإلحاح" أنا، أنا، أنا"! أبحث عن مكان أكون فيه آخر الناجين، ثم أنهر هذا الجسد اللجوج " ما الذي يميزني عن الآخرين"؟ انظر لسريري وهو يدعوني فاقول له " أنا قادم" وأنام عليه دون أحلام.

على صوت القصف خرجت إلى الممر فرأيت بائعة الورد، التي بادلتني الود مع الورد، جاثية على ركبتيها، تصلّي وتبكي من وطأة الخوف. المسبحة في يدها وفي نهايتها صليب يرتجف. صوت القذائف يقترب،يقترب، يقترب.

صديقي الكاتب لَصَقَ ظهره على جدار الممر ورأسه مشدود باتجاه السقف الذي سينهار في أية لحظة.

-ما بك؟!

-أســســسكت!

صرخ بي. لقد جفت دماؤه تماماً. قال لي انه يوشك ان يموت الآن. أية كلمة مني قد تسبب له سكتة قلبية. وقفت أمامه خائفاً من خوفه.:تسرّب لي ذلك الخوف الرهيب الذي تلبس الاثنين معاً. وأمامي في طرف الممر المظلم الجرذ إياه،لا هو جرذ ولا هو قط، مقرف وخبيث، لكنه بائس هذه المرّة، محدودب الظهر واقف على قدميه الخلفيين وشبك يديه أمام صدره ينظر إلينا نحن الثلاثة بقلق، وقد هزت الانفجارات جحره الأمين. كأنه يسألنا نحن المتسائلين رغم علمنا: ما الذي حدث؟!.


AM:02:05:23/10/2023