في خطورة "السوشيال ميديا"
معن البياري


أن تمتلك جهاز كمبيوتر محمول، وتنشئ حسابيْن لك في "فيسبوك" و"تويتر"، وتخصّص بعض وقتك للملمة النمائم والخراريف والأخبار، هذا كافٍ لتكون صاحب رأيٍ في أي شأنٍ تريد، في وسعك نشرَه، وإشاعتَه، وتلقّي ردودٍ عليه، وإقامة تفاعلٍ وأخذ وردٍّ بشأنه، ولا سيّما إذا توهمت في نفسك صفة المثقف، وهذه يكفيها لتكون فيك أنك طالعت كتابيْن في حياتك، وتصفّحت بعض الجرائد، وجالستَ أشخاصاً على بعض المعرفة بالدنيا. ييسّر لك ملعب "السوشيال ميديا" المشروعية لاستباحة من تشاء، ولتقذف فلاناً أو علاناً بأيّ كلام، ولتدلي بما ترى في أيٍّ من شؤون الأرض، ثم تلتقط أقوالاً منك برامجُ تلفزيونيةٌ وتقارير إخباريةٌ في صحف ومواقع إخبارية، بوصف ما قلتَ بأنه من تعبيرات الرأي العام في هذه المسألة، أياً كان ما سقتَه من كلام، زعرنةً أو تشبيحاً أو تجرّؤاً أو تعالماً، أو ربما كان قولاً فيه صحةٌ وسدادٌ ورجاحة. المهم أنك، كما غيرُك وأمثالُك الذين لا عدّ لهم، صار لك نفوذ، فإذا ما خاصم بعضُهم ما كتبتَ ورأيت، أو أيّدك فيه من أيّدوك، وكان أولئك أو هؤلاء كثيرين، وهذا ليس صعباً، فإنك تصبح من مصادر المعرفة، وممن يساهمون في تشكيل القناعات الذائعة والمعلومات الرائجة والأفكار والتصورات الشائعة. 


لا جديد في الكلام أعلاه، غير أنّ من شديد الوجوب أن يؤكَّد دائماً أن خطرا ليس هيّناً يحدُث بين ظهرانينا، موجزُه أن "السوشيال ميديا" صارت المصدر الأهم والأول لمعرفة الجمهور الأخبار، ولتداول الآراء، وتشكيل القناعات في هذه المسألة أو تلك، أو أقلّه للتزوّد بأسباب المماحكة والجدالات الركيكة بشأن هذه القناعات. على الصحيفة أو الموقع الإلكتروني أن تذهب موادّهما إلى "تويتر" و"فيسبوك" ليقرأها الجمهور الأعرض. عليك أن تنشر مقالتك أو دراستك أو تحليلك الإخباري أو مشاركتك التلفزيونية في مواقع التواصل الاجتماعي، ليصل ما كتبتَ أو ما قلتَ إلى الجمهور العام بشكل أوفق وأشمل. هذا تطوّر كبير، ونقلةٌ ثقيلةٌ في عالم الميديا وصنّاعه، في فضاء الاتصال والتواصل. لم تتخيّل مداركَنا، لمّا درسنا "الاتصال الجماهيري" في الجامعة، في سنوات الثمانينيات الأولى، أن العالم سيبلغ هذا المدى في "ثورة المعلومات" التي كنّا نطالع عنها حينذاك، وكذا في حركة الأخبار وتداولها في العالم، والتي جعلت العالم "قريةً صغيرة"، بتعبير مارشال ماكلوهان الذي درسناه في تلك الغضون. لقد بات ذلك الكلام أرشيفا في كلاسيكياتٍ عتيقةٍ، فالمستجدّ الذي أحدثته "السوشيال ميديا" في الراهن الذي نعيش يجعلك تكتب إلى الرئيس الأميركي ترامب التعقيب الذي تريد على كلامٍ له يصل إلى هاتفك الجوال بين يديك في أي وقت. ويجعل في مقدروك أن تُشهر رأياً لك بشأن الحادث في بوليفيا، مما تتابعه في هاتفك مباشرةً، وأنت في أي مطعم فلافل في مسقط.


أما وأن الإيجابيّ في هذا الحال كثير، وهائل النفع على غير صعيد ومستوى، إلا أن مقادير التفاهة في أثنائه، معطوفةً على أرطال الزعرنة، وفي إبّان المؤانسة والإمتاع التي تحوزها، والدنيا بين يديك في هاتفٍ نقّال، تبعث على كآبةٍ كثيرة، على حزنٍ وفير، من فرط استسهال الكلام الذي لا يقيم أصحابُه اعتباراً لتأثيره في المزاج العام، وكذا المزاج الخاص لغير شخص. ومن فرط النأي العريض عن التثقف من المطبوع والمكتوب، في الكتاب خصوصاً، لدى الأجيال المُحدثة، غير المخضرمة من أمثالنا الذين عبروا من زمن احترام الجاد المطبوع إلى زمن هيمنة الرقمي وسطوته.


عندما يستاء وزيرٌ في الأردن من محاوره المذيع في التلفزيون الرسمي، لظنّه أن معلومات الأخير التي يستوضح بشأنها مستمدّةٌ من "فيسبوك"، ينسى معاليه أن "فيسبوك" حاجةٌ ملحّةٌ وشديدة الضرورة لحكومة بلاده، وكل حكومات العالم، للتواصل مع الجمهور العام. وعندما يخوض من نعرف ومن لا نعرف في حملةٍ ثقيلة العيار، خفيفة الأخلاق وركيكة، ضد وزير معيّنٍ أخيراً في الحكومة الأردنية، لدواعٍ مستهجنة. وعندما تصادف مهرجاناتٍ كلاميةً في غير شأن، بفلتانٍ وثرثراتٍ وسخافاتٍ كثيرة، فإنك تجد نفسَك مضطرّاً إلى أن تشهر أكثر من نقطة نظام على ثقافة التفاهة التي صارت شديدة الخطورة على المدارك والأفهام، على مخيّلات الناس ووجدانهم العام، على صداقاتهم وزمالاتهم.. على المشترك الجامع، على الأخلاق أيضاً.
AM:01:42:16/11/2019