إعلامنا في الاتجاه المعاكس
آمنة احمد القلفاط

اعتدنا أثناء قراءة البحث العلمي الصادر من أي جامعة مرموقة في العالم، وجود جملة « to the best of my knowledge» أو ما يمكن ترجمته بالعربية « وفق أفضل ما توصلت إليه من معلومة « ورغم مصداقية البحث وكم المراجع التي استند عليها الباحث في بحثه عن المعلومة، إلا أن عليه تبرئة نفسه من أن يكون قد تداخل مع نطاق معلومة أخرى، أو نسب لنفسه ما ليس من حقه. ورغم ضمان حقوق الملكية الفكرية، وسهولة التأكد من صحة المعلومة ومصداقيتها، في وقتنا الحالي، أي أن البحث، بالطبع، يكون قد استوفى الشروط الموضوعة ليكون أهلا للنشر، لكن الباحث يرفق الجملة المذكورة ليبين للقارئ في المقام الأول أن هذا حدود علمه بالخصوص.
هذا ما يحدث على مستوى البحث العلمي الذي يرفق، بالضرورة، أسماء القائمين بالبحث وعناوينهم والمعلومات اللازمة التي تضمن حقوقهم.

أسلوب منهجي وعلمي

مع الحديث عن المعلومة ونشرها، نجد الإعلام، كوسيلة نشر، له أُطر تنظيمية وقانونية ليكون أداة تُحسِن تقديم مهامها بأسلوب منهجي وعلمي سليم. أحد البنود المهمة هي وجود المهارات التعليمية والخبرة اللازمة لدى متتبعي الأخبار، والحنكة الإعلامية التي تمكنهم من تحليل المعلومة تحليلاً نقدياً شاملاً لجميع الجوانب.
المعلومة التي يقدمها الإعلام، عندما تستوفي شروطها الصحية، من شأنها تغيير نظرة الناس لواقعهم المحلي ونظرتهم للعالم. إن لها دورا، ليس فقط في تعميم المعرفة والتوعية، بل إنها تتعدى ذلك إلى دور أهم وهو المساهمة في تشكيل الرأي العام وتوجيهه، توجيها إيجابياً، من خلال الكشف عن المعلومة ومتابعة القضايا وتمثيل الرأي العام وترسيخ احساس المواطن بالتمكين في وطنه ودوره في المساهمة في خدمته والحفاظ على مقدراته وصيانتها. إن الإعلام يستمد سلطته من المجتمع، الذي هو محور وجوده في الأساس.
اللافت والمؤلم في ممارسة الإعلام، على خريطة وطننا العربي، هذا الكم من المحللين والسياسيين الذين يدعون معرفتهم بدهاليز علم المنطق والسياسة والمجتمع وتعقيداتها، وهم يهلون علينا صادحين بتفسيراتهم وتحليلاتهم التي تأخذ جانبا ضيقا وتهمل جوانب عديدة أخرى.
هؤلاء المحللون والسياسيون، لا يقدمون اسوأ ما لديهم فقط، بل أنهم خالفوا حدود ما اصطلح عليه علم منهج المعرفة وشروطه، واخترعوا مقاييس جديدة لا تناسب غيرهم، وهم يصرون وبإلحاح غريب في محاولات متكررة، لإقناع المشاهد والقارئ والمستمع بتنظيراتهم.
هؤلاء المحللون ومن ورائهم من سياسيين وممولين للقنوات الفضائية، لم يخالفوا القواعد العامة المعروفة في نقل الخبر والاستشهاد بالمعلومة فقط، بل إن لهم دورا في تجهيل المواطن وتعطيل الرأي العام، ووأد مبدأ كون الشارع هو المحرك الأساسي التي تقوم السياسة به ومن أجله.
لقد أدخلوا المواطن البسيط في دوامة من الصراع بين الحق البديهي في فرصة العيش بحرية وكرامة، وبين وهم حماية المواطن من أخطار، لا تهدد إلا مصالحهم وكراسيهم.
قوانين الصحافة ومصداقية المعلومة تحتم على المحللين والإذاعيين والسياسيين، المصداقية والحياد والانحياز للمصلحة العامة، ولكن ما هي حدود معرفتهم لكي يكونوا مؤهلين لحمل مسؤولية قول الحقيقة وإقناع المشاهد بها؟
إنهم يجعلون المشاهد لا يشك فقط في تقديمهم لأفضل ما لديهم، بل أن الشك تجاوز ذلك، ليدخل في ماهية المعرفة التي يملكونها، وحدودها؟
يقول بلزاك رائد الواقعية، إن النفوس المهملة والفقراء هم وحدهم الذين يجيدون المراقبة، إنهم يعرفون كيف تسير الأمور لأنهم يعيشون المعاناة.
المراقبة وليدة المعاناة، والذاكرة لا تسجل جيدا إلا الألم. يبدو أن اتساع المسافة التي تفصل بين منظري السياسة ومعاناة المواطن، تتزايد يوما بعد يوم، وكأنهما في كوكبين متباعدين ومتنافرين.
ما يحدث ليس محطات مأجورة فحسب، وليس اصطفافا مع جانب ضد الآخر، وفقاً لمصالح فردية ضيقة فقط، إنه يبين وبوضوح أن الأسس التي يسير عليها الإعلام مصطنعة ومبرمجة من الأساس. إن ما يحدث في عالمنا العربي مع هذا الانحياز من قبل الصحافة والمحطات الإعلامية، لتكون أبواقا صادحة ليل نهار للسياسة العمياء، قد تخطى الحدود وبلغ مراحل متقدمة من الإدمان على تشويه الحقيقة، وأنهم قد جبلوا على لي عنق المنطق، ولم يعد من مرجعية لهم سوى ارضاء السياسة العليا للحكام.

الانفصال بين المواطن والسلطات

السلطة تواصل تقوية جذورها كل يوم، فيما المواطن وصلت به المعاناة حد القرف من السلطة وطباليها ولم يعد لديه من أمل في اصلاحها. مع تزايد الانفصال بين المواطن والسلطات العليا، بات المواطن يعرف السلطة جيدا، فيما السلطة تنغلق على نفسها وتبتعد عن المواطن، الذي هو هدفها الذي جاءت من أجله في الأساس.
مع انفصال المواطن عن سياسييه وفقدانه الأمل في الإصلاح، تتسع الفجوة بينهم، ويتوارى دور المواطن وينحصر في أموره الحياتية البسيطة في معزل عن دولته. وقد يكون هذا، تحديداً، ما يريده الحكام ليستفردوا تماما بالسلطة وتغيب المراقبة والنقد، لكن الضحية هو وطن بالكامل. ولنا في التاريخ عبر.

alquds
AM:03:51:04/12/2019