المنصة The Platform
د. أماني فؤاد


في لحظات فلترة وتكثيف الوجود الإنسانى التي نعيشها الآن، تنفتح دوائر ضوء على الأشياء والمعانى من حولنا،
فتجعلنا نراها دون أسطحها البراقة المراوغة التي تحجب حقيقتها.

 في تلك اللحظات أيضا تزداد حساسية تلقينا للخطابات من حولنا،
فمنذ أيام شاهدت على شبكة النتفيلكس الفيلم الإسبانى «المنصة» للمخرج (جالدير أوروتيا)،
 العمل الفائز بجائزتى «خيار الشعب» و«جنون منتصف الليل» لكاتب السيناريو (ديفيد ديسولا)
 إنتاج 2019. وأحسب أن هذا العمل يُقدم للمشاهد أحد أهم أدوار الفن، ذلك حين تجرد السينما الصراع
البشرى وتخلصه من كل ما يزاحمه من ادعاءات ومعانٍ تتوالد حوله؛
 لتجميل حقيقة الصراعات البشرية حتى تحجب الأصل، كما تُغرقه بالتفاصيل التي تشوش
 علينا جوهره، فنضع أيدينا على عناصر تكوّنه بدون تجميل أو تزييف.


يوظف الفيلم تقنية الرمز فيصنع ما يشبه مصفاة للحياة، من خلال نص ينهض على دراما الأفكار،
 حيث يجردها تماما ليصل إلى هيكلها العظمى كى نراها في مستواها الصفر.

 ففى مكان يشبه السجن أو «الحفرة الرأسية»ــ بملاحظة شكل الملابس وديكورات المكان ـ
ويتكون من طوابق متعددة، لا أحد يعرف عددها، تدور صراعات ساكنى طوابق
«المركز العمودى للإدارة الذاتية» على الطعام الذي على المنصة، تلك التي تتحرك عبر فراغ ممتد
من الرأس إلى نهاية الطوابق، ثم العودة إلى الأعلى لتُملأ من جديد، ثم تعاد تلك الدورة كل يوم.

 تتوقف المنصة في كل طابق لحظات لحين يأكل الفردان القاطنان فيه لمدة شهر،
 ثم تتغير الطوابق التي يتنقلان بينها بطريقة عشوائية، ومن المفترض أن يكفى الطعام الذي
على المنصة جميع من في الطوابق، لكن ما يحدث في الواقع أن ساكنى الطوابق العليا يأكلون
 أكثر من حصتهم، فلا يتبقى طعام لساكنى الأدوار السفلى، للدرجة التي تجعل أحدهم يقتل
زميله ليأكل من لحمه، ويصبح القانون إما أن تَأكل أو تُؤكل. ويطرح الفيلم بطريقته الفنية
أزمة البشرية في عدم القدرة على التواصل، ويؤكد على أن اللاتواصل يعد السبب في كثير
 من المشكلات المصيرية التي تواجه البشر، كما يناقش كيف يمكن أن نُوجد تواصلا، وكيف نحميه ونفرضه؟

كما يحاول أن يجيب عن مجموعة من الأسئلة المؤرقة للإنسان من قبيل:

ــ كيف نحول هذا العالم الهمجى إلى عالم إنسانى، ولماذا تختلف طبيعة البشر كل هذا الاختلاف؟ فتتفاوت الأطماع بينهم بين الأنانية المفرطة، أو القدرة على التخلى والرغبة في العطاء وتنظيم حركة الوجود.
فمن خلال تغيير (جورينج) للطوابق يلتقى بالمرأة التي شنقت نفسها في الطابق«202» ليأكلها،
حيث لا طعام ليعيش، في حين قيده رفيقه السابق في الطابق 171 ليقطع من جسده ويأكل كى يستطيع أن يعيش،
هذا الرفيق الذي عاش معه في «48» وتحاورا وقرءا سويا.

ــ هل يمكن أن يتحاور البشر دون أن يضطرهم شىء لإجراء هذا التحاور، ففى الطابق «33» فرض (جورينج)
التزام الساكنين من تحته بحصة الطعام التي حددتها لهم المرأة رفيقته بالطابق بتهديدهم بتغوطه على الطعام كله،
 بعد أن حاولت هي معهم كثيرا بالحوار ولم يلتزما، وهل الإقناع طريقة البشر للتواصل فيما بينهم
والتخلص من الأنانية والأثرة، أم لابد أن يفرض الإقناع بالقوة التي يمكن أن تكون القانون،
والخوف من العقاب الذي يفرضه؟ وهو السؤال الذي يمكن استخلاصه من حوار
 «المعلم الحكيم» مع تلميذه (بهارات) الذي قابله (جورينج) في الطابق «6»
واتفق معه على التعاون؛ لفرض حصص معينة لكل من في الطوابق، مستعينين بالأسلحة.

ــ هل الفكر هو القادر على توجيه حركة الجموع، أم «النشوة»؟ النشوة التي تعد في الفيلم رمزا للنبوة والرسالات التي تتنزل من الله، ويمثلها في الفيلم شخصية (بهارات)، حيث يعد الإيمان والتسليم فيها هو المحك الرئيس؟

ــ هل من الحتمى ليتمكن الإنسان من تنظم الحياة بمنظومة القيم بين البشر أن يستند على القوة وهو ما يمثله تأمل (جورينج) للأوضاع؟ الفكر الذي تقف وراءه القوة، وهى القضية التي طالما طرحتها الأعمال الفنية، وأتذكر منها رائعة «صلاح عبدالصبور» المسرحية الشعرية «بعد أن يموت الملك»؟

- almasryalyoum



AM:04:05:30/05/2020