عن الحب وسطوته
بسمة النسور

لا تعدّ الحكاية المثيرة عن زهد الأمير هاري بالمنصب، وتخليه عن مزاياه الكثيرة، سابقة في تاريخ العائلة المالكة البريطانية، وقد اتخذ، وزوجته الممثلة الأميركية، ميغان ميركل، خطوة شجاعة بإعلان قرارهما التنحّي عن مهامهما الملكية (طبيعتها بروتوكولية)، والسعي إلى استقلالية مالية، وإقامة حياة جديدة لأسرتهما الصغيرة، بعيدا عن نمط العائلة الحاكمة، الصارم والتقليدي، البالي غير المتلائم مع روح العصر. 


فعلها من أجل امرأة أحد أسلافه، إدوارد الثامن، وكان حينها ملكا على المملكة المتحدة ودول الكومنويلث وإيرلندا والهند، تخلّى إدوارد العاشق، المتيم عن العرش طواعية، ومن دون أدنى تردّد، حين وضع بين خيارين، لا ثالث لهما، قلبَه في كفّة والعرش الملكي في الكفة الأخرى، فرجّحت كفة الحب وتنازل الملك الشاب عن السلطة والنفوذ والرخاء والمجد، كي يتزوج من السيدة واليس سمبسون الأميركية التي عشقها إلى درجة التعلق، وعاد غير نادم أو متحسّر، حاملا لقبا أدنى سابقا، فصار مجرد أمير، ثم أصبح دوق وينزر، قبل أن يعين حاكما على جزر البهاما، وظل بقية حياته ملازما زوجتة المحبوبة التي زهد بالعرش كرمى لها، حتى دنت ساعته، وقضى في فرنسا، حيث أمضى بقية حياته، على الرغم من أنه منحدر من تاريخ بريطاني عنيف، موغل في الدموية والعنف، قتل فيه الابن أباه، وأوصلت الأخت أختها إلى حد المقصلة من أجل الاستحواذ بالعرش في سلسلة صراعاتٍ وحشيةٍ على السلطة، سفك خلالها الدم، وعمّت الفوضى، وكثرت المؤامرات والتحالفات غير البريئة. تبرأ إدوارد من كل ذلك الإرث العنيف، وانحاز إلى الحب فقط، اعتبره أولوية وخيار حياة غير قابل للمساومة. خسر، على إثر ذلك، عرش بريطانيا العظمى، غير أنه حظي بالسلام الداخلي والتصالح مع الذات، وحاز احترام العالم، وظل رمزا حيا للوفاء والتضحية والانصياع لسطوة الحب. أقدم إدوارد على ذلك القرار الكبير الذي هزّ عرش المملكة غير السعيدة في عام 1936، لتعتبر فترة حكمه هي الأقصر في تاريخ بريطانيا. قال إدوارد توضيحا لموقفه إنه وجد أنه من المستحيل تحمل العبء الثقيل من المسؤولية وأداء واجبات الملك، من دون مساعدة من المرأة التي يحبها، وهي المرأة الأميركية المطلقة، لأن الزواج منها مخالفة صريحة للدستور الملكي البريطاني الذي لا يسمح لملكٍ عازبٍ بالزواج من مطلقة. وهكذا أثبت إدوارد أن في وسع الواحد منا أن يمتلك زمام حياته، ويقرّر شكل أيامه المقبلة، متحرّرا من كل المحاذير والتبعات التي تكبل إرادته.


حتى لو اختلفت المعطيات، في حالة ميركل وهاري، كون هاري لم يتولّ الحكم بعد، وإن كان حقه في تولّي العرش محفوظا، بحسب تسلسل المواريث، لكن جوهر الأمر هو نفسه، رجل وامرأته أخذا قرارا بالتحرّر من قيود المنصب، قرار شخصي حرّ مستقل في سبيل تحديد طريق حياتهما المستقبلية. من هنا، لا أجد مبرّرا للشعور بالصدمة والإحباط والخيبة التي عبّر عنها القصر، في بيان مقتضب، فالأمير في النهاية يحمل جينات والدته الراحلة المتمرّدة ديانا التي شغلت حياتها العابرة القصيرة العالم بأسره، ودفعت عمرها ثمنا لحقّها في الخلاص، وهو زوج لامرأة يحبهّا فنانة حرّة مثقفة مترفعة عميقة ذات مزايا إنسانية جديرة بالاحترام. وقال هاري، في سياق بيان التنحّي: "أخشى أن يعيد التاريخ نفسه. لقد فقدت أمي يوما". من الصعب أن تحتمل أن شخصا تحبّه تحول إلى سلعة. ومن دون شك، للمرأتين الأثر الأول في تحرير الأمير من مغريات السلطة التي تنتهك الخصوصية وتنتهكها.


وتظل حكاية هاري التي أثارت ردود فعل متباينة دليلا آخر على سطوة الحب، تلك الطاقة العجيبة الغامضة، وقدرتها غير المحدودة على تحديد مسار حياتنا، حين تبيح لنا التحكّم بمقاليد أرواحنا في سعيها الدائم صوب الحرية قيمة مطلقة وسامية، لا يضاهيها جاه أو سلطان، مهما بلغ شأنه.




alaraby
AM:03:27:25/01/2020