ملعب كربلاء.. والرد على قاتل مشذوب
مشرق عباس
ليس مجرد حفل افتتاح لدورة كرة قدم اتهمه متشددون دينيون بانتهاك "قدسية كربلاء"، بل هو أكثر من ذلك بكثير؛ فمن قتل الروائي الكربلائي علاء مشذوب بداية فبراير من هذا العام ونجى بفعلته وسط تضامن سلطوي وحزبي ومليشياوي رهيب لطمس معالم الجريمة وحماية مرتكبها، رد عليه أهالي كربلاء أنفسهم في ملعب كرة القدم في المدينة التاريخية العظيمة، عروه، وفضحوه، وتركوه أمام الحقيقة.

الجدل الذي أثارته الدوائر المتشددة حول حفل افتتاح بطولة غرب آسيا، لم يكن بأية حال ينظر بعين التقديس إلى كربلاء! فعازفة الكمان لم تنتهك، وهي تعزف النشيد الوطني في ملعب على بعد نحو 10 كيلومترات من ضريح الإمام الحسين، قدسية المدينة، بقدر ما كان دم مشذوب المراق على بعد أمتار من الضريح نفسه انتهاكا لتلك القدسية. هذا ما أدركه أهالي كربلاء جيدا بعد أن سارع الشباب إلى شراء روايات مشذوب المصبوغة بدمه.

حسنا فعل من تسرع في نصب مشانق الإدانة لشباب كربلاء، فقد ميز نفسه جيدا، وسط الارتباك والادعاء والضبابية التي نشرتها الأحزاب في مدن العراق، وفتح الباب للأسئلة عن "المدن المقدسة" وحدودها ومعايير التقديس و"الانتهاك" فيها، وهي أسئلة محرمة منذ سنوات. ويتم مواجهة من يطرحها بالترهيب الديني على شكل حملات إعلامية وسياسية وقانونية منظمة، أو كما تمت مواجهة مشذوب نفسه، الذي لو كان القدر قد سمح له بالنجاة من رصاص الاغتيال، لتصدر الشباب في ملعب كربلاء.

فعندما يعلو صوت التشدد الديني، وعندما يتمترس في السلطة من يحتضن هذا التشدد، ويخفت صوت المعارضة المدنية العراقية مرتبكا بسبب أخطاء قياداته ونخبه، من السهل الدفع بقوانين ملتبسة ومقيدة للحريات كقانون التظاهر، وقانون حق الحصول على المعلومة، وقانون المحكمة الاتحادية، وقانون الأحوال الشخصية، وغيرها، بعد صوغها بدهاليز تفكير التشدد الديني.

وعندما يتم الزج بشباب العراق في تحديات وجودية وضغوط اقتصادية واجتماعية وإخضاعهم لغسيل دماغ يومي على يد المليشيات الإلكترونية المدربة في مواقع التواصل الاجتماعي، من السهل أن يتم توسيع مفهوم "المساحة المقدسة" لأسباب سياسية بحتة، وليس حتى لأسباب دينية. فكربلاء حفظتها ذاكرة العراقيين، وحمت حدودها جيلا بعد جيل، ولم يكن بإمكان أمم وغزاة محو تلك الذاكرة المتقدة طوال قرون، وبالطبع لن يكون بإمكان أحزاب وقوى سياسية غارقة بالفساد والإساءة إلى معاني كربلاء الوجدانية، تقديم أي اضافة بهذا الشأن.

ليس جديدا القول إن تمسك الشعب العراقي بنمط الحياة المدنية ومعطياتها أصيل وقديم في جذوره، وإن كل المحاولات للتأثير على قناعات الشعب باءت بالفشل، مع أنها كانت محاولات قاسية ومُرّة واستنزفت الطاقات العراقية لسنوات طويلة. وكان الأمل أن تصل القوى المتشددة دينيا إلى قناعات بعدم جدوى العمل على تغيير العراقيين، لا على الطريقة الإيرانية، ولا على أية طريقة أخرى؛ لكن تداعيات حفل كربلاء، وحملات الإدانة التي انطلقت بلا هوادة لتطعن حتى بأمن العراق وقدرته على تنظيم بطولة لكرة القدم فوق أراضيه، تثبت أن التفاؤل ليس له محل من الإعراب حاليا، وأن النضال المدني في العراق هو أصل الأزمة العراقية بكل تفاصيلها وكل تداعياتها، وأن القوى التي تتخذ من الدين ستارا لتدجين المجتمع سياسيا، تكمن وتتراجع مرحليا بانتظار الفرص للانقضاض على أي منجز مدني يحققه المجتمع بمعزل عن الحكومات والقوى السياسية.

ملعب كربلاء، ليس أصل الحكاية. أصلها في أزقة المدينة ومدن العراق الأخرى التي شربت دم علاء مشذوب والآلاف من العراقيين على يد حراس الفضيلة المزيفين الذين باعوا العراق وتنكروا لدستوره وتقاليده وقيمه المتسامحة الممتدة في التاريخ. ولهذا يجب ألا يتم إهدار هذه اللحظة بالطبطبة على أكتاف المارقين من أعداء الحريات وإيجاد الأعذار لشطحاتهم المتطرفة، بل يجب الوقوف أمامهم والرد على غيهم بالقانون وروح الشعب المدنية المنتفضة منذ سنوات، لأن اللحظة التالية لن تكون مجرد بيانات تنديد لإثبات الولاء الديني والتزلف كما هي الآن، بل أفعال دامية على الأرض ضد حرية التعبير أكثر قسوة من فعل اغتيال مشذوب.

AM:05:13:04/08/2019