قوة ناعمة.. في أيادٍ خشنة!
مشرق عباس
من دون مقدمات أصبح المدنيون والمثقفون العراقيون هدفا معلنا للمليشيات وأنصارها، الذين غيّروا بوصلتهم من اجترار الخطاب الطائفي، والتنكيل بالخصوم السياسيين، وتوزيع تهم الإرهاب والبعثية على مخالفيهم ومن تشييد الهيكل المقدس الكبير لزعمائهم، إلى وضع المدنيين والمثقفين العابرين للطوائف كهدف استراتيجي يجب إسقاطه ولكن هذه المرة ليس باستخدام كواتم الصوت التي تدربوا على استخدامها لعقد ونصف، وإنما أولا باستخدام مصطلح "القوة الناعمة!".


بالطبع كان المدنيون في العراق هدفا على طول الخط، لكن خطورتهم في المراحل الماضية تتعلق بمقاومتهم للهوية الطائفية، فمجرد ألا تكون طائفيا أو عنصريا في العراق كان كافيا أن يفهمه الطائفي والعنصري من كل الأطراف كرصاص موجه إلى عينيه، لكن تصالح الطائفيين فيما بينهم في صفقة الحكومة الأخيرة وتقاسمهم المقاعد والمناصب والمصالح كان أشبه بـ"مساكنة" لا ترتقي لتكون زواجا ولا تحتاج طلاقا لإنهائها، فيما تحول المدنيون فجأة من شركاء في محاربة "داعش" إلى انصار للصهيونية العالمية ودعاة للتطبيع!


استيراد أدوات "الحرب الناعمة" لم يكن صعبا
تلك الصورة الأخيرة لم يكن بإمكان الأصابع، التي تصلبت من جراء عمليات الاغتيال على الهوية، إنتاجها، كانت ستشبه مشهدا كاريكاتوريا سيء الإخراج، فمن محاسن العراق أن مثقفا عراقيا حقيقيا لم يقدم على التحالف مع القوى المتشددة وكان الحيز المدني هو الإطار العام للمنتجين في مجالات الإبداع المختلفة، لذلك كان التباين والتمايز واضحا طوال السنوات الماضية بين قوى التشدد السياسي والاجتماعي وبين الإعلاميين والمثقفين والناشطين. وكان التساؤل حاضرا في مجالس السياسة الداخلية عن الفشل السياسي في استقطاب المدنيين العراقيين على رغم تشكيل عدة أحزاب حاولت الاستيلاء على مصطلح "المدنية" وشعاراته.


استيراد أدوات "الحرب الناعمة" لم يكن صعبا. فحلفاء في "حزب الله" وفي إيران وسوريا وربما في الهند وباكستان بإمكانهم أن يكونوا بديلا للأصابع العراقية الخشنة، خصوصا عندما يكون استهداف المدنيين "هدفا جادا" وليس مناورة سياسية وانتخابية كما جرت العادة.


المفارقة أن الحرب التي دشنتها هذه القوى في وسائل التواصل الاجتماعي لاستهداف صحفيين وناشطين مدنيين ومثقفين، بتخطيط أجنبي وأدوات عراقية بدائية، وأهدرت من أجلها أموالا طائلة، لم تكن في النهاية موجهة إلى المدنيين أنفسهم، وإن كانت كافية لإشعارهم بالذعر بعد تجربة سنوات طويلة من أعمال القتل والتنكيل التي تعرضوا لها، بل إنها تفتتح مرحلة جديدة من تحولات الفصائل المسلحة من العمل المسلح إلى المشاركة في الانتخابات وحصد مقاعد برلمانية إلى بناء الشبكات الاقتصادية المهولة ومشاركة الدولة قرارها وسلاحها وعقودها ومشاريعها إلى تهيئة الاجواء لبقاء دائم في صلب معادلة "اللادولة" التي ترجمت بطرق مختلفة خلال المراحل الماضية وكشفت عن نفسها بوضوح في الحكومة الحالية.


ولأن نمط عمل هذه القوى يحتاج دائما إلى "تهديد" فإن القوات الأميركية التي كانت تشكل جوهر الخطب النارية العدائية سابقا، لم تعد هدفا لتلك الخطب، وحدث ذلك، ربما، بعد أن أعلنت واشنطن أنها سترد على طهران إذا تعرضت قواتها للخطر في العراق! فلم يعد بإمكان القوات الأميركية التي سبق وتعاونت في سنوات ماضية مع قيادات في تلك المليشيات والأحزاب، وأغدقت العقود والمنح والرعاية لمنظمات وواجهات سياسية مثلتها بأسماء مختلفة، أن تكون هدفا صالحا للتسويق، فيما وفرت تفجيرات غامضة لمخازن الحشد الشعبي، لم يكشف رسميا حتى اليوم عن طبيعتها والجهات التي نفذتها، غطاء نموذجيا لاستحداث عدو خطير هو إسرائيل لم يكن قد تم تداوله طيلة 16 سنة سابقة!.


نمط عمل هذه القوى يحتاج دائما إلى "تهديد"
ولأن إسرائيل بدورها قد وجدت في تلك المستجدات مفتاحا لدور ومساحة تطمح إليها في العراق، كان التخادم الضمني بين الطرفين للتكتم على الحقائق حول تفجير المخازن، وتكفلت القوى الناعمة لدى الجانبين معا بتحويل "قصة المسيّرات الإسرائيلية" من فرضية إلى واقع، يجب أن يقر به الجميع بصرف النظر عن التحقيقات، التي مازالت الحكومة العراقية التي تبدو خارج اللعبة بأكملها، لم تنته منها!.


عندما تكون القوة الناعمة المدعومة من المال السائب بأياد خشنة متورطة، يبدو طبيعيا النتاج المهلهل من الاتهامات المستوردة من تجربة "حزب الله" في لبنان، ومن اللغة البعيدة عن الثقافة العراقية حول التعاطي مع إسرائيل، ومن بالونات الاختبار المرتبكة على غرار بالون "القوة الجوية الجديدة!".


الحرة
AM:04:09:07/09/2019