القرارات الجامعية من العشوائية إلى التعمية التامة
د. نادية هناوي


تعاني الجامعات العراقية اليوم من كثير من المعوقات التي تقف حجر عثرة أمام تطورها العلمي والتعليمي وفي مختلف مجالاتها البشرية والمادية، الأمر الذي يجعل مسيرة هذه الجامعات متعثرة أو متقوقعة في كل ما هو جامد ونمطي كمظاهر وممارسات.

ومن المظاهر المعيقة لتقدمها هي القرارات التي تفرض على الأستاذ الجامعي مقيدة عمله ونازعة عنه أية رغبة في الابتكار، هذا الابتكار الذي تبحث الجامعات عنه وتسعى نحو غرسه وتوطيده في هيآتها التدريسية والبحثية من خلال فتح مراكز وإنشاء قنوات واعداد برامج وستراتيجيات.

ولا يكون اتخاذ أي قرار وظيفي ناجعاً إلا إذا كان عن دراسة مكثفة وبدراية مهنية تضبط العمل من دون استثناءات هنا أو هناك. ومن معالم عدم نجاعة كثير من القرارات التي تم العمل بها في السنوات الخمس الأخيرة هو ما تثيره عند صدورها من امتعاض ورفض وذهول عند الأساتذة الجامعيين ذوي الخبرة في مجال اختصاصهم من المتحلين بالنزاهة والمهنية في أداء مهامهم والتعامل مع محيطهم.

والسؤال الملح هنا إلى متى تظل القرارات الصادرة من هيئات الرأي وأصحاب الأمر خاضعة لتبدلات الظرف وأهواء المنصب ؟ وكيف السبيل الى جعل تلك القرارات خاضعة لضوابط مفيدة للصالح العام نافعة بعموميتها التي لا محاباة فيها ولا مهادنة ؟ ومتى يمكن للأستاذ الجامعي أن يكون طرفاً في اتخاذ تلك القرارات وأهمية تمريرها على الوسط التعليمي الذي هو المحور فيه؟ ولماذا هذه الطارئية في استحداث قرارات لا تغني هذا الوسط بل تفقره ؟

هذه الأسئلة وغيرها تثار كلما استحدث قرار فيه مزيد من الانتهاك والتعدي على حقوق الأستاذ الجامعي وكأن لا سياقات معلومة وطّدت سابقاً بحسب التخصصات ولا أوصاف وسمات حُددت وضُبطت مما به تتباهى الجامعات في العالم، إذ كلما طال الأمد على قراراتها ودقة تطبيقها والسير عليها كان دليلاً على رصانة عملها وصحته، وأعرق الجامعات هي التي تتميز بقدم قراراتها زمانياً ومهنياً. 

ويمكننا تحديد المتحصل من جراء استحداث القرارات بصورة عشوائية وطارئية غير مدروسة بما يأتي :

1)التدخل في خصوصيات عمل الأستاذ وطبيعة المنهجية التي يراها ملائمة لتخصصه والضلاعة التي يتحلى بها بين طلابه ومناسبتها لخبرته في كيفيات التدريس وملاءمتها لطبيعة المناخ الجامعي نفسه والامكانيات الفنية والتقنية المتوفرة ضمن ميدان العمل المباشر. 

2)التدخل غير المسؤول في طريقة الأستاذ في إعداد الاختبارات لطلابه مكبلين يديه ومقيدين عقله بفروض لا يكون الاختبار بعدها اختباراً؛ إنما هو روتين لا تؤخذ فيه اختلافية اختصاص عن اختصاص وميزة ميدان على ميدان وأهمية منهج على غيره وهكذا.. 

3) إغراق العمل الجامعي باللجان التي تفصَّل على وفق مقاسات وطلبات أقل ما يقال عنها أنها تضيّق على الأستاذ عمله الأساس وهو البحث والدرس، وتجعله مشدوداً الى الميدان الإداري أكثر. 

4) جزافية التعامل مع الدراسات العليا التي تأتي القرارات حولها في كل عام دراسي بلا دراسة ولا منهجية سواء في إعداد المقبولين أو في امتيازات فئة تقبل خارج السياقات والضوابط، ومن ثم يغدو التبدل في القرارات في العام الواحد مستمرا وما على الأستاذ سوى الولاء والطاعة حتى إن كان ذلك على حساب المستوى النوعي وصناعة مخرجات كفوءة وجديرة، توسم بأنها ( عليا ). وذلك بدءاً من خزعبلات الامتحان التنافسي.. وانتهاء باجراءات لا علمية في عمل السنمارات ومسرحيات المناقشات العلنية المسطحة والمظهرية. 

5) إهدار النوعية في تجربة التعليم الالكتروني والتمسك بالبعد الكمي الإحصائي في تقييم هذه التجربة التي كانت للجامعات في أغلب بلدان العالم ـ قبل مجيء الجائحة ـ تجاربها الواضحة مع التعليم الالكتروني ومنها جامعات عربية سواء على صعيد الندوات الافتراضية والمنصات العلمية أو على صعيد الحلول التي تساعد في النهوض بالعملية التعليمية ببعديها الميداني والعلمي بينما عمّم العمل بالتعليم الالكتروني في جامعاتنا بشكل طارئ مع الجائحة الفايروسية الأمر الذي جعل التلكوء وعدم الدراية مرافقاً القرارات التي صدرت حول تطبيقه وهي تُعنى في الغالب بالصعيد الإعلامي ترويجاً ودعاية غير مهتمة بالصعيد الميداني. 

6) روتينية الصيغ المعتمدة في تقييم الأستاذ الجامعي كل عام سواء في البنود التي تأتي لصالح فئة قليلة تعمل في ميدان ليس بعيداً عن المكان الذي صدرت منه تلك الصيغ أو في طريقة احتساب نشاط الأستاذ الجامعي، فتعطى الأولوية مثلا للجانٍ لا ينتمي إليها إلا نفر هو في الأساس (متكتل) وإلا ما كان ليكون في تلك اللجان هذا الى جانب حالات بها تبدو تلك الصيغ بلا طعم ولا رائحة فلا هي تفيد الأستاذ في الارتقاء العلمي ولا هي تمكنه من تغيير نمط بنمط انسب.

7) القرارات الجزافية التي ترافق آليات احتساب الترقية العلمية وضوابط منح الألقاب التي صار تحلي بعضهم بها يثير الارتياب حول مدى رصانة تلك الآليات. وأن مراجعة بسيطة لكمية ما يتم منحه من ألقاب لاسيما الأستاذية سيكشف عن مزيد من التسطح وعدم المسؤولية في التعميم والإلزام حتى غدت تلك الآليات فعلاً روتينية.

8) وقوف تلك القرارات الطارئة حجر عثرة أمام أي تخطيط علمي وإداري لما هو قادم بعد ثلاث أو خمس أو عشر سنوات. والنتيجة مدخلات ومخرجات عددية بلا نوعية وها هي آلاف الشهادات العليا ومئات الألقاب العلمية لا نفع يرتجى منها في مقابل عشرات المئات من الموهوبين وذوي القدرات العلمية والمؤهلات البحثية والإدارية ممن لا يجدون في الجامعات مَن يقدر مواهبهم، والمفروض أصلا البحث عنهم والإفادة من قدراتهم.

9) الأحادية في اتخاذ القرارات والتساهل فيها بغية إنجاح الطالب بأي شكل من الأشكال حتى إن كان الأمر يقتضي التضحية بالمستويات والمعارف التي ينبغي أن يتزود بها هذا الطالب وكأن نجاحه هو الهدف الوحيد من العملية التدريسية فضلاً عن إبعاد الأستاذ عن أن يمارس أي دور في هذا المجال، وهو الذي ينبغي أن يؤخذ برأيه عند اتخاذ أي قرار وأن يكون هو معيار النجاح بوصفه الأقرب الى المجال العلمي يعلم ما ينفع قسمه ويساعد في الابتكار والإبداع داخل حقل تخصصه.

10) إشكاليات نشر البحوث في المستوعبات الالكترونية والكيفية القسرية التي ينبغي للباحث أن يخضع لها مشروطاً عليه النشر في مواقع هي نفسها غير مضمونة (مفترسة) قد يسرق فيها بحثه من دون أن يدري استغفالاً وتدليساً ناهيك عن سعة مجالات تلك المستوعبات التي تُشتت جهود الباحث إلى درجة ممقوتة. ونسي أصحاب القرارات الطارئة بخصوص آليات نشر البحوث في المستوعبات المعروفة أن في كل كلية مجلة جامعية ولها ضوابطها وللباحث الحرية في اختيار المجلة التي تلائم جهده البحثي. لا أن تكون الضوابط بهذه الصورة التي تكاد تقتل المجال التعليمي حائلة دون تدعيمه بما هو جديد علمياً ومعرفياً.

11) تآكل البنية المعرفية للجامعات كأساليب ووسائط وأنظمة. أما ما يتبقى فمظهرية خارجية تخدم ذوي العلاقة بلا خوف ولا مراقبة ما دامت المنفعة الإدارية ذاتية ومتبادلة.

وبسبب هذه المحصلات وغيرها نظل في الدوامة ذاتها متطلعين إلى ذلك اليوم الذي فيه تغدو جامعاتنا ما بعد إنتاجية وعلاقاتها الإدارية محكومة بسياقات عريقة ورصينة لا تزويغ في تطبيقها ولا تلاعب في تنفيذها. وعندها ستعود للأروقة الجامعية حرمتها وستكون لها هيبتها فلا يكون فيها من هو طارئ عليها وسيستعيد كل مرفق تعليمي خصوصيته التي تجعل ما يصدر حوله من قرار مساهماً في تجدده وليس في تجميده. 

ولا نريد أن نقول إن هذا التطلع هو ضرب من خيال لكننا نقول إن التدهور الذي صار يرافق العملية التعليمية لا يحتاج إلى برهنة وهو معلوم لدى كل أستاذ حريص على أن يكون بالفعل أستاذاً ومعروف لدى كل طالب مؤهل بحثياً لأن يكتسب المعرفة؛ بيد أن تعقد الوضع الذي نحن فيه اليوم هو ما يجعله في درجة العمى فلا نهاية للمظهرية الكمية ولا زوال للأحادية والكتلوية التي صارت تنخر مجال العمل الجامعي من رأسه حتى قدمه بمسائل يلتف فيها على السياقات فتحرف بعض البنود والفقرات على وفق اجتهادات شخصية، تصير بمرور الزمن سياقات عمل مع أن لا علاقة لها بالعلم وميادينه البحثية. 

ويظل الأمل كبيراً ومضاعفاً بأن تتوسع مساحة المحاسبة التي طالت مؤخراً بعض المجالات المتعلقة بهدر المال العام فوُضعت تحت طائلة القانون ممن لم تستطع هيأة النزاهة أن تضعهم تحت طائلته. وما نأمله هو أن تشمل هذه التغييرات المجال الجامعي الذي لا يقل في أهميته عن أهمية المجالات الاقتصادية أو المالية كونه يتعلق بالعلم والتعليم وما يتصل به من شؤون لا تخص الجيل الراهن بل تشمل الأجيال القادمة أيضاً، راجين أن تصل يد المحاسبة والتدقيق الى كل مجالاته فينكشف ما فيه من تلاعبات واستغفالات ولا مبالاة..و( رحم الله امرءاً عمل عملاً فأتقنه).

-almadapaper
AM:04:23:21/10/2020