أي أن لا يفترضَ صاحبُه أنّ المَدْعاةَ إليه وجودُ اشتراكٍ في الرَّأي أو المِزَاج أو المَسْلَك بين مَن يمارِسُ فعْلَ الاعتراف ومَن يُصْرَف إليه الفعْلُ ذاك.

لكأنّ الاعتراف، في هذه الحال، أشبهُ ما يكون باعترافٍ بالذّات؛ حيث تعثُر هذه على نفسها في امتدادِها مجسَّدًا في غيرها. وفي ظنّي أنّ ذلك ليس من الاعتراف في شيء.

ببساطة، لأنّ المدروجَ عليه من الأفعال والمألوف من العادات أن نميل إلى التّنويه بمن يجارينا في الرّأي، والتّدليل به على وجاهة ما يذهب إليه الواحدُ منّا من اعتقادٍ أو ما يأتيه من تقديرٍ للأشياء.

إنّ هذا، في المُعتاد، ممّا يُطْلَب ويُبْحَث عنه للاحتجاج له، للقول إنّ ما نرتئيه ونقولُه ونردِّدُهُ ليس ضربًا من الرّأي اليتيم المعزول، الذي لا يأخذ به النّاس، وإنّما هو ممّا يقتنع به غيرُنا ويشاطِرُنا إيّاهُ مَن يشاطِرنا.

هكذا يجيء الاعتراف برأي الآخر مجيءَ توكيدِ الذّات، لأنّه باستدلالنا به إثباتٌ لصحّةٍ يُحتاج، دائمًا، إلى غيرٍ يُقيم عليها الدّليل.

لسنا، قطعًا، ضدّ ترتيلِ الاعتراف بآخرٍ يُقَاسِمنا الرّأي أو الفكرة؛ لأنّنا ندرك أنّ ثمّة من أهل الرّأي مَن ليسَ على استعدادٍ حتّى للاعتراف بمن يقتسم معه الاقتناع بفكرةٍ أو رؤيةِ، ومَن يصِرّ على حصْريّة مُلْكيّته لما يقولُه أو يكتُبُه. إنّ مجرَّد الاعتراف بهذا النّظير فيه قدرٌ من التّسليم بأنّه شريكٌ في الرّأي ونظام التفكير، وتحرُّرُ – ولو نسبيّ – من الأنانيّة والنّرجسيّة والمنزِع المَرَضيّ إلى إنكار الآخر؛ حتّى وإن كان هذا من ذوي القرابة في الرّأي !

ونحن، هنا، لا نختلق نماذج افتراضيّة متخيَّلة، بل نستحضر في حديثنا ما لا حصر له من المثالات عن أولئك الذين يدبّجون آراء وأفكارًا وُجِدَ من قال بها قبلاً، أو يوجَد من يقول بها في الأثناء، لكنّ الآخرين يُغَيَّبون ولا يُذْكرون – في ما يكتُبه الإنكاريّ – حتّى لا يبقى في الصّورة إلاّ هو وحده من غيرِ نظيرٍ أو قرينٍ أو شريك!

لهذا نقول إنّ مجرّد الاعتراف بمن يشاركُ المعترِفَ رأيَه أمرٌ مستَحَبٌّ، وخَطْوٌ نحو السّواء ومحمودٌ، حتّى وإنْ هو اغتَرَض من اعترافه غرضًا ذاتيًّا محدودًا: تمجيد الذّات وتلميعها.

مع ذلك، يظلّ الاعترافُ الذي من هذا الجنس اعترافًا منقوصًا، غيرَ مطابقٍ لمعنى الاعتراف (في أصوله الفلسفيّة)، لأنّ مَبْنَاه على ما يوافِق الذّات (= ذات المعترِف)؛ وفي ذلك مَنْقَصة من قيمته ومضمونه.

نتأدّى من هذا إلى القول إنّ الاعتراف الوحيد، الجدير بأن يُوسَم بالاعتراف حقًّا، هو الاعتراف بالمختلف؛ بمن يختلف معك في الرّأي وقد يخالفك. ليس مألوفًا في ثقافتنا وتفكيرنا مثلُ هذا النّوع من الاعتراف، لأنّ إتيانَه يجرِّع صاحبَه الشّعور بأنّه لا يملُك من الحقّ أكثر ممّا يملُكه غيرُه، وأنّه ليس صاحب الرّأي في هذه أو هاتيك من المسائل، بل صاحبُ رأيٍ فحسب.

ومَن ذا الذي يقْوى على أن يتحمّل وطأة الشّعور بنزول مرتبته إلى مراتب غيره من مخالفيه، في مناخ ثقافيّ عامّ وسائد، مزدحم بالخطابات الإيديولوجيّة المدفوعة بيقينيّاتها إلى الحدود القصوى؟!

ما من اعترافٍ، على الحقيقةِ، إلاّ الاعتراف المقترِن بالإيمان العميق بفكرة الاختلاف. مَن يعترف، حقًّا، بغيره هو مَن يسلِّم بحقّ ذلك الآخر في الاختلاف؛ في أن لا يكون نسخةً منه أو نظيرًا له وشريكًا في الرّأي والمعتَقَد؛ في أن يكوِّن لنفسه الرّأي الذي يشاء، حتّى وإن خالفَ هذا رأيَه أو ناقضه.

هذا هو المعنى الحقيق للاعتراف. وهو لا يتّخذ شكلَه الناجز إلاّ متى اقترن الاعتراف بالاختلاف مع فكرة التّضامُن المبدئيّ  مع المختلِف، فتحوَّل من مجرّدِ تسليمٍ بوجود مختلفٍ عنّي في الرّأي، إلى تسليم  بوجوب إبداء تضامني معه في حقّه في الرّأي المختلِف. ذلك، على وجه الدّقّة، ما تُفيدُه عبارة ڤولتير الشّهيرة: "قد أختلف معك في الرّأي، ولكنّي مستعدّ لأن أدفع حياتي ثمنًا لحقّك في التّعبير عن رأيك".

إنّ الحقّ في الاختلاف، هنا، يعلو على مجرّد الحقّ في الرّأي.

على أنّ ثمّة فارقًا فلسفيًّا بين الاختلاف والاعتراف يحْسُن بنا الانتباه إليه، لتفادي الانزلاق إلى المماهاة المفهوميّة بينهما. التّسليم بالحقّ في الاختلاف لا يكون، دائمًا، اعترافًا. قد لا يتجاوز التّسليم بأمرٍ واقعٍ موضوعيّ من قبيل التّسليم بأن الفرنسيّين أو الألمان أو الأمريكيّين يملكون الحقّ في الحديث بلغات مختلفة عن بعضها، أو هي تختلف عن لغتي.

ولكنّ اعترافي بأيّ من هذه اللّغات يجاوز تسليمي بالحقّ في اختلاف متكلّميها عنّي أو عن لساني.

لا تستوعب فكرةُ الاختلاف فكرة الاعتراف، في منطلقاتها، وإنْ كانت تتقاطع معها في نبذ التّماثليّة والاستنساخيّة التّنظيميّة من النّوع الهُوِيَّويّ المُغلَق. أمّا فكرةُ الاعتراف، في مَباديها الرئيس، فتستوعب حكمًا فكرةَ الاختلاف وتستدخل هذه في جملة قواعدها.