"فات الميعاد؟"
ابتهال الخطيب


في سنة 1984 أنتجت قناة BBC البريطانية فيلما تلفزيونيا مصورا على شكل تسجيل وثائقي (هو في الواقع عمل درامي بحت) يسرد تبعات ما بعد ضربة نووية تقع على مدينة شفيلد في شمال إنكلترا، والتي يفترض أنها ضربة من عدة حول العالم كله تنذر بوقوع الأرض بأسرها تحت حرب نووية. 

يعتبر الفيلم من أكثر الأعمال الدرامية واقعية، من حيث تقديمه لفكرة "الشتاء النووي" المتوقع أن يضرب الأرض بعد قيام أي حرب نووية واسعة النطاق. يستعرض الفيلم تدهور الحياة البشرية واختفاء المعالم الإنسانية شيئا بشيء منها مع فناء الملايين من البشر، التلوث الشاسع للبيئة، والتدمير الشامل لمظاهر الحياة الحضارية.

يقدم الفيلم دراسة بحثية أنثروبولوجية للطبيعة البشرية من خلال استعراضه للتدهور البشري والإنساني المتوقعين على إثر وقوع كارثة واسعة النطاق، مستدعيا بذلك التفكير في صعوبة وبطء البناء البشري والحضاري وسهولة وسرعة هدمهما. 

الفيلم، من حيث المشاهد المصورة بزوايا الكاميرا المرعبة ومن حيث الحوارات التي تبدأ إنسانية وتتدهور إلى درجة لا يمكن تمييزها، هو مرعب ومفزع إلى أقصى درجة، إلا أن أكثر ما يثير الهلع هو ذاك الذي لا نراه مصورا ولا نسمعه منطوقا في الفيلم ولكنه متضمن في كل مشهد من مشاهده، هو هذا التدهور الفوري والحاد للجوانب الإنسانية اللامرئية، لما احتاج لآلاف السنوات لتعضيده وترسيخه في الوعي الإنساني مثل المفاهيم السلوكية الحضارية، الوعي الضمائري الإنساني الذي يتعدى المصلحة الشخصية، والمبادئ الأخلاقية والتعبدية الاعتقادية. يقول الفيلم إن أحد أوائل ما سيختفي من المجتمع الإنساني هو الممارسة الدينية، يتبعها اختفاء للغة وتدهور تام في الإمكانيات العقلية رجوعا بالإنسانية إلى مرحلة بشرية أولية بدائية لربما لا عودة منها.

العنصرية والتمييز يفترض أنهما أعداء الأخلاق الإنسانية والمفاهيم الدينية، فكيف انقلبت البشرية سريعا على هذين، وخصوصا الثاني الذي تتصارع هذه البشرية من أجل نشره وترسيخه؟

لم يغب هذا الفيلم عن بالي منذ أن شاهدته من سنوات عدة. أقتنص كل فرصة ممكنة للبحث حول موضوع التدهور البشري السريع هذا، هل يمكن فعلا هدم ما بنته البشرية على مدى قرون في عقد من الزمان؟ هل يمكن أن يغيب عن المشهد الإنساني أهم وأخطر القيم التي يتمسك بها البشر بل والتي يبدون استعدادهم للفناء من أجلها؟ هل ستختفي الأديان مع بدء أفول الإنسانية المتحضرة؟ 

لم أكن مقتنعة كثيرا بهذا المنحى الأنثروبولوجي، فالبشر ينحون للتمسك بأديانهم حين وقوع الكوارث، ولربما ستظهر إلى السطح أقوى نزعاتهم الأخلاقية والضمائرية وهم يشهدون تدهور بني جنسهم إلى درجة منذرة بالفناء، فقبل كل شيء، نحن كائنات مصنوعة من "جينة" المحافظة على البقاء واستمرار النوع، ولا بد أن هذه الجينة ستتحرك وتستنطق كل خلية في أجسادنا لمساعدة بعضنا البعض والمحافظة على نوعنا. 

لكن، كل هذه الأفكار لم تستطع الصمود أمام تأثير الفيلم في ذاكرتي بقوة وواقعية وعلمية استعراضه. وعليه بقي التساؤل المقلق معلقا، هل يمكن فعلا أن تتضعضع كل القيم الإنسانية التي احتاجت لآلاف السنوات لبنائها، بعضها تصارع يتصارع البشر لنشرها وترسيخها، في غضون بضع شهور لتختفي تماما في عقد من الزمان؟

أشعر هذه الأيام بغربة عن محيطي، إذا اجتمعت والصديقات يطفو شيئا من التوتر في الهواء ناتج عن تبادلهن تعليقات و"مزحات" باتت شديدة الحساسية بالنسبة لي. إذا تجمعت مع الأهل أستشعر نظراتهم الساخرة للبعض إذا ما قيل شيء يعرفون أنه يدخل في حيز النقد عندي. أصبحت الكثير من مجموعات الواتسآب ثقيلة عليّ وأنا أكثر ثقلا على أصحابها. أصبح وجودي في أي تجمع حقيقي أو إلكتروني مقلقا، يرمي بظله الداكن على "مزحات وحواديت" المجموعة. بت وكأنني أسمعها تدور في قلوبهم: ها قد أتت مفرقة الجماعات ومخربة جلسات الأنس والمزاح. أصبحت أنا أيقونة الجدية الثقيلة والمبالغات المبدئية التي لا مكان حقيقي ولا سعة نفسية لها.

طبعا أتشارك بهذه المشاعر مع الكثيرين مثلي الذين يتمسكون بشفرة قديمة، باتت غير موجودة وربما لم تعد صالحة للحالة البشرية وما يصاحبها من بيئة نفسية حالية. أعرف أن في تصرفاتي وغضباتي نوع من التعالي المبدئي والأخلاقي، لكنني حقيقة لا أتقصدها، فليس أعلم مني بنفسي، بنواقصي، بتضحياتي بالكثير من المبادئ التي قد تتضارب ومصالحي، بعار سكوتي حين يجب أن أتحدث وعار حديثي حين يجب أن أصمت. إنما تشكلت الحالة دون قصد مني أو تعمد، بدأت منذ سنوات حين تعالى الحس العنصري في العالم أجمع وفي منطقة الخليج بالأخص؛ وترسخت اليوم حين بات التصريح بكراهية الآخر وبالنفور من "الغرباء" أمر ليس مقبولا فقط، بل معلنا ومستحسنا ومتوقعا. 

فقد ارتفعت مؤخرا بين أهل الخليج عامة، والكويتيين تحديدا، نبرة النفور من الجالية المصرية تحديدا ومن الغرباء عموما، عززتها المصاعب المكانية والمالية والطبية التي وضعها وباء كورونا في طريقنا. رسبنا في اختبار ليس هو الأصعب ولا الأوقع، نعم وباء كورونا هو خطر ضرب العالم أجمع، لكنه ليس كارثة نووية، فعلام تخلينا السريع عن تعاضدنا الإنساني؟ علام انقلابنا السريع على المفاهيم الأخلاقية التي كانت قبل فترة وجيزة علامة فارقة في مسيرة تحضرنا البشري؟ كيف عدنا بهذه السرعة والصلافة لقبلياتنا القديمة وتكتلاتنا الغابرة القائمة على مفاهيم عرق ودم وهمية؟ 

أعيش محرجة باستعراض أخلاقي لا أنا أستطيع إيقافه أو تغيير قناعاتي تجاهه ولا أدري إن كنت قادرة على التمسك الحنبلي به

العنصرية والتمييز يفترض أنهما أعداء الأخلاق الإنسانية والمفاهيم الدينية، فكيف انقلبت البشرية سريعا على هذين، وخصوصا الثاني الذي تتصارع هذه البشرية من أجل نشره وترسيخه؟

لا أتقصد فعليا التعالي، فأنا أعلم بتواضع تمسكي المبدئي وهشاشة التزامي الحيادي، لكنني لا أعرف كيف أبدو على غير ذلك في محيط أصبحت أشعر فيه بالغربة والوحدة والانهزام. تلاحقني نظرات السخرية (أو ربما هي في خيالي فقط؟) في أي تلاقي حين يدور الحديث عن "الوافدين" في الكويت، تلح عليّ حججهم: "أنت لست واقعية، مثاليات لا تسمن ولا تغني، شوفي حجم الخراب والفساد"... وغيرها من الحجج التي أرى وجهها الأيمن تماما كما أرى وجهها الأيسر، ورغم ذلك لا أنا قادرة على الابتسام ولا قادرة على تجاهل الآلام، رغم أن أم كلثوم رحمها الله نسيت الاثنين في رائعتها "فات الميعاد"، فتراني أنطلق بحديث طويل ممتد حول الإنسانية والمبادئ الأخلاقية والمنطق والعقلانية، لأبدو، أعترف تماما، كخطيب على منبر، مزعج بتكرار نصحه، كوميدي بتعليقات المستمعين له، منافق بطبيعته البشرية التي لا تحتمل كل ما يصدح به من مبادئ والتزامات.

أشعر أنني حبيسة حيّز صنعه طبعي ولا أعرف كيف أخرج منه، أشعر أنني في غربة شكلها حديثي لا رجوع منها، منفى دائم لن ينقذني منه كلام أو تصرف، ذلك أنني ما أن أبدأ بالكلام حتى أجعل الموقف أسوء مما كان. لقد صدق فيلم Threads، في أوقات النكبات الإنسانية، أول ما سيضحي به البشر هو المبادئ والمثل التي في حال تمسكهم اللاوقعي بها، قد تقتلهم فعليا، وسيكون شعار المرحلة "أنا ومن بعدي الطوفان". هذه حالة بشرية على ما يبدو واقعية ومتوقعة وستصيب كل منا حال اقتراب الخطر المحيق. 

أعيش غربة الإثبات الواقعي لهذه الفكرة، وأعيش أسيرة ذليلة لحقيقة أنني معجونة جينيا بها وأنني قد أتبناها إذا ما اقترب الخطر، وأعيش تناقض كراهيتي واحتقاري لها مع تفهمي لمسبباتها ودوافعها، وأعيش إصراري على ضرورة مقاومتها علميا ومنطقيا وإنسانيا مع فهمي لضعف إرادة جنسي البشري في تحقيق ذلك، وأعيش محرجة باستعراض أخلاقي لا أنا أستطيع إيقافه أو تغيير قناعاتي تجاهه ولا أدري إن كنت قادرة على التمسك الحنبلي به. "فمتى أنجو من الأسر وتنجو؟ لست أدري"، كما قال العظيم إيليا أبو ماضي.

-alhurra
AM:07:26:30/09/2020