شرعية الدولة المتنازع عليها في العراق
إياد العنبر


الشرعية، هي ذَلك المَسلك الطبيعي المتوافُق مع وُجود الدَولة، وتُشير إلى الإذن الأخلاقي لها بمُمارسة الإجبار، ولذلك تَقترن بواجب الخضُوع والطَاعة، والذي يكون قابلا للتبرير في ذهن المُواطِن. ويبدو أن الشرعية، بهذا المفهوم غائِبة عن النظام السياسي في العِراق، ولا يلتمس المُواطِن وجودها أو تأثيرها على تفاصيل علاقته مع المؤسسات السياسية. 

الصراع على الدَولة في العِراق، يتخذ مَنحى خَطِيرا يتجاوز مسألة صِراعات الهويات الطائفية والقومية، فهو الآن يُعبر في جوهرهِ عن صِراع الشرعيات. إذ غالباً ما بات تُغلف سجالات الفُرقاء السياسيين بعناوين تُريد الإيهام بشرعيتها. 

وفي الوقت الذي يُفترض بأن نِظامنا السياسي يستمد شرعيته من انتخابات دورية، إلا أن الواقع السياسي الآن محكوم بإرادات سياسية تستمد شرعيتها من عناوين رمزية، وعائلية، وقوة السلاح. وحاصل اجتماع هذه الإرادات هو من يتحكم بالحياة السياسية ومؤسسات الدولة في العراق. 

ولو أمعنا النظر إلى إدراك الشرعية وجميع ما تُمثل في وعي الطبقة السياسية والمجتمع، نجد أنها تُعبر عن الوعي المأزوم بالدَولة. مرة تجدهم يتحدثون عن شرعية "نِضَالهم" في مُعارضة النظام الدكتاتوري السابق، وبعضهم يَعتبر شرعيته مستمده من رمزيات وانتماءات عائلية دينية وسياسية كان لها حضور في تاريخ العِراق السياسي، وأيضاً يعتبر آخرون مصدر شرعيتهم من المناصب السياسية التي استولوا عليها بعد تغيير النظام في 2003. 

الشرعيات الموهومة للقِوى، الموزاية للدَولة، عملت على تقزيم شرعية النظام السياسي القائمة على أساس الانتخابات، ومن ثُم تحولت الديمقراطية في العِراق إلى نظام مشوه غُيبت عنه الشرعية، وبات نظاما بلا حُراسة بسبب تَغيب شرعية المؤسسات السياسية لصالح عناوين شرعية موهومة تُروج لها عناوين زعامات ومكونات طائفية وقومية، وبالنتيجة أصبح نظام تحكمه أوليغارشيات، عائلية، وسياسية، وليس الإرادة الشعبية.  

ضاعت شرعية الحكومة في بغداد وأصبحت الحلقة الأضعف في صراع الشرعيات

وتعود هَشاشة الشرعية البنيوية، للدَولة العراقية لثلاثة أسباب رئيسة: الأولى، أن شرعية النظام السياسي لا تزال مِحور السِجالات، لأن سُقوط النظام السابق تم عبر التدخل العسكري المُباشِر لقوة أجنبية كان لها كلمة حاسمة في التغيير، وثانيهما أن الشرعيات التقليدية التي في مجتمعات ما قبل الدولة كان لها حضور فاعل ومؤثر في تشكيل النظام السياسي الجديد وتمثلت بعناوين زعامات المعارضة ورجالات الدين وزعماء قوميين وحاولت تَرسيخ نفوذها في بنية المنظومة السياسية التي كانت ولا تزال تعلو على الشرعية الدستورية، وثالثهما؛ غياب مشروع سياسي وطني لبناء "الدولة-الأمة" ويعطي الأولية لكيان سياسي يكون قادراً على احتواء جغرافية العِراق من دون النظر إلى تقسيمات الخريطة على أساس طائفي وقومي، ويواجه مشاريع دول الإقليم التي تنظر إلى العِراق باعتباره مكونات وليس دولة تحتوي مكونات. 

والآن في العراق، تتصارع على شرعية الدولة قوى موازية تُهيمن أذرعها الأُخطبوطية على النظام السياسي، بعضها يستمد شرعيته من عنوان المُقاومة التي بدأت نشاطِها ضد التواجد العسكري الأميركي واستمرت بهذا العنوان لمواجهة تنظيم داعش. ومُشكِلة العناوين السياسية التي ترفع شعار المُقاومة، تُريد أن تبقى تعمل وتفكر بالشعارات التي ترفعها في المواجهة والصدام حتى مع الحكومة التي هي مشاركة فيها أو شاركت في منحِها الثقة! ولذلك هي لم تتجاوز اللحظة التي منحتها الشرعية، وإنما تُريد الإبقاء عليها حتى وإن تحولت إلى مجرد شعار سياسي يَفتقد لأي جَدوى عندما لا يكون المواطن وكرامته وحياته ورفاهيته غايتها.

وضاعت شرعية الحكومة في بغداد، وأصبحت الحلقة الأضعف في صراع الشرعيات، لأنها باتت تخضع لتجاذبات ضغوطات الجمهور الذي يَعتبرها مسؤولة أمامه في توفير احتياجاته المعيشية وتأمينها باعتباره "مصدر الشرعية" وفق الدستور، وفي الطرف الآخر زعمات الطبقة السياسية تُريدها أن تلتزم بالصفقات والتوافقات التي على أساسها تم منحِها الثقة. 

ولذلك هم يعتبرون الحكومة مسؤولة أمامهم وليس أمام الشعب، وأنهم أعلى من المساءلة والمحاسبة على الأخطاء التي ارتكبوها بحق العملية السياسية والشعب على مدار الأعوام السبعة عشرة الماضية. 

النظام في العراق تحكمه أوليغارشيات عائلية وسياسية وليس الإرادة الشعبية 

بالمقابل، وبعد أن استعصمت أزمة شرعية النظام السياسي على العلاج وعقمت فيها الحلول دخلت احتجاجات أكتوبر من العام الماضي على خط التقاطعات في الشرعية، وتريد أن تثبت للطبقة السياسية والحكومة أن التضحيات التي قدمتها في معركتها مع عجز النظام سياسي والأوليغارشيات السياسية عن الاستجابة لمتطلباتها، باتت تفرض نفسها في معادلة سياسية عملت على تغيب المواطن بعناوين طائفية وقومية. ومن ثم آن الأوان أن يكون لها حضور في حسابات قوى السلطة لا سيما أن شرعية الاحتجاجات لم تعد رهينة المطالب الإصلاحية، بل ثبتت نفسها بدماء الشباب في ساحات التظاهر.  

صراع الشرعيات، هو السبب الرئيس بغياب شرعية المنجز التي تقوم عليها الأنظمة الديمقراطية، فالحكومة لم تعد مهمتها الاستجابة إلى تطلعات جمهورها والعمل على تحقيق رفاهيته، وإنما أصبحت مهمتها الرئيسة تنظيم صراع الشرعيات والتعبير عن التوازن بين الأقطاب السياسية الفاعلة في النظام السياسي، لأنها- أي الحكومة- لا تَعتبر شرعيتها مستمدة من الجمهور مباشرة وإنما من الزعامات السياسية التي مَنحت رئيس الحكومة والوزراء الشرعية! 

ولا يمكن أن تتبجح الحكومة والطبقة السياسية بشرعية الانتخابات، لأنها بهتت وضاعت بين ضجيج القتل وأنين الضحايا وانكسار الأمن وتشقق المجتمع في خضم صراعات توجهها مصالح زعماء الكلبتوقراطية. فلم يعد كافياً الاتكاء على شرعية الانتخابات من دون أن تصحبها شرعية المنجزات، إذ أن الانتخابات وَسيلة وليست غاية بذاتها، وَسيلة الوصول إلى حكم عادل ورشيد عبر تحقيق سياسات القوى الفائزة والبرنامج الحكومي المُنبثق عنها.

-alhurra
AM:08:11:30/11/2020