صانع الفرح
زهير الجزائري


الأيام الأخيرة من عام ١٩٧٨كانت الأقسى علينا نحن الباقين من جريدة (طريق الشعب). كل  من حولنا اعتقلوا وترك التعذيب في أرواحهم ندوبا لن تندمل. والبعض الآخر غادر الى المنافي أو إلى الاختفاء وتركوا خلف طاولاتهم في الغرف الخالية صدى أصواتهم و شكل الكائنات  الغائبة. كنا نتجول في الجريدة الموحشة وننظر من النوافذ لنرى رجال الأمن وقد أحاطوا بنا  من  كل الجهات يتابعون الخارجين الى بيوتهم وقد أبقونا للحظات الأخيرة.

في هذه الأيام التي لا تنسى دعانا صانع الفرح (عدنان حسين) الى بيته في الطوبجي لنحتفل  برأس السنة. دهشنا من فكرته ونحن نعلم أن دورنا في الاعتقال والتعذيب قادم بحيث نعرف  تفاصيله.. مكان الاعتقال والطريقة التي سيطوون بها اجسادنا في قاع السيارة وشد العيون ثم  جولات التعذيب. 

حفظنا هذه التفاصيل من تجارب رفاق خرجوا توا ورووا  لنا الهول بأنفاس متقطعة و مجرّحة.  لم نقل نعم ولم نقل لا. عدنان يعرف كيف يبسط ما سيحدث والابتسامة لا تفارقه:

  • ما الضير في أن نفرح لليلة واحدة، ثم ليحدث الذي سيحدث؟

قالها ببداهة تصعّب النفي. ثم رسم لنا على الورق موعد اللقاء ومكانه.

لن أنسى تلك الليلة. رقصنا وضحكنا مثل المجانين. وبقدرته الخارقة على تحويل الكوابيس الى نكات أشبعنا (مؤيد نعمة) ضحكا على حالنا القادم. ضحك عصبي غريب كنا خلاله ننزع  الكوابيس القادمة كما نقتلع المسامير.

ببراعته في صناعة الفرح جمعنا عدنان تلك الليلة في صداقة غريبة، ننظر لبعضنا ونحن نسأل دون صوت كيف سنفقد هذه الصحبة.

لم ننم حيوية عجيبة امتلكتنا.. نأكل بنهم من المائدة التي  أعدتها هيفاء ونتحدث بصراخ كأننا نعلن عن وجودنا بالصياح ونضحك بصوت عال ، فليحدث الذي سيحدث ، نقاوم النوم لنمتلئ بلحظات الحاضر. بقينا حتى الصباح نستمرئ هذا الفرح  العجيب، خرجنا في الفجر إلى شوارع بغداد لنودع المدينة. أفطرنا شوربة عدس مع عمال  المسطر في ساحة الطيران ونحن ما نزال بثياب السهرة مع زوجاتنا و حبيباتنا ثم واصلنا  الصباح بحثا عن باعة الكاهي ونحن نستمرئ هذا الفرح والتحدي قطرة قطرة. المدينة نفسها  كانت تودعنا بدهشة: ماذا دهاهم، شلة المجانين هذه. نصبح بالخير الباعة وهم يفتحون محلاتهم ونخفي سرنا بابتسامة مكبوتة.

بعد تلك السهرة غبنا عن بعضنا، كلا في مكان اختفاء وانقطعت أخبارنا عن بعضنا ونحن نسفّه القلق بليلة التحدي التي وضع عدنان برنامجها.

-iraqicp
AM:07:00:10/10/2020