أن تخدعَ الصحافة نفسها مرتين
علي السراي


أليسَ مُهيناً أن يبدوَ وصول الصحافيين العراقيين للمعلومات، في الغالبِ، محلَ شكٍ وربما اتهام؟ قد يكون الجواب موجعاً بعد نحو خمس عشرة سنة من الشُغل في صحافة ما نزال نفترضها حرةً. 

هل السؤال مجحف أو ربما وقح بعض الشيء؟ لكن، وبينما استثني صحافيين عراقيين كافحوا في التقصي ومساعدة الجمهور لوصله بالحقيقة، تظل السمة الغالبة للعمل الصحافي لا تدعم مبدأ حرية تداول المعلومات، وإن كان بعضها متداولٌ ضاربٌ في الانتشار، عبر منصات ووسائل مختلفة. 

أعني، أن جُل "المانشيتات" المتخمة بالمعلومات لم تأتِ بشق الأنفس، بل جاءت لأن اللاعبين السياسيين سربوا شيئاً في ظرف ما، وتحت تأثير متطلبات التسوية والتوافق، وفي بعض الأحيان تنسل المعلومة سهلةً من متقاعدين أو خارجين من الحلبة.

دعونا نراجع قصصنا الصحافية، التقصي، الرأي المسند إلى معلومة، التسريبات القادمة من مصادر ما، حتى تلك التي تخرج من قناة يضمنها القانون لنشرها على الملأ، لم تكن تعبرُ بحق عن سلطة أو نفوذ لهذه المهنة. إنها غالباً ما تأتي متأخرة خطواتٍ عمّا ينتجه النشاط السياسي، بما في ذلك صندوق الفساد الأسود.

طبيعة العلاقات التي أسسها النظام السياسي أرادت، عمداً، أن يكون الوصول إلى المعلومات تجارياً نفعياً بالمعنى الحرفي للكلمتين، مفتوحاً فقط لمنصات محددة تمرر رسائل، وليس معلومات، أحادية الجانب ينقصها الكثير من جهة الالتزام بشروط "إعلام" الجمهور، وليس خداعهم. وفي ذلك لا فخرَ لمن أدعى ويدعي تمكنه من مصادر مهمة، إن جاءت بهذا النسق الشاذ.

كانت شركة "نايت رايدر"، وهي تحالف صحف أميركية نشطت عشية حرب العراق عام ٢٠٠٣، بوصفها الأكثر تشكيكاً بمبررات الحرب، هي الوحيدة المنبوذة من بين صحف عملاقة مثل "نيويورك تايمز" و"واشنطن بوست". هاتان الصحيفتان، مثلاً، حصلتا بما يشبه الكنز على وصول سلس حر لصناع القرار في البيت الأبيض ودوائر المخابرات.

استمتع محررو أكبر صحيفتين أميركيتين بصياغة عناوين نارية مقتبسة من "كولن باول" و"جورج تينت" و"دونالد رامسفيلد" وآخرين، عن أن الحرب الآن "أفضل من انتظار سحابة النووي العراقي تسبح في سماء أميركا"، لكن صحف "نايت رايدر" كانت تنشر تحقيقات تضمنت مقابلات مع قادة من الصف الثاني - غير موجودين في قوائم كبار الصحافيين للأشخاص المفضلين لمحاورتهم - يفندون بمعلومات مبرر الحرب.

تبين لاحقاً أن صحيفة منبوذةً مثل "نايت رايدر"، اتُهِمت بمعاداة الوطنية الأميركية، على حق تماماً في مسألة التحقق من المعلومات، وأن "نيويورك تايمز" نفسها اعتذرت لاحقاً عن تضليل الجمهور. في الحقيقة كان الاعتذار اعترافاً بتسليم اللحية لمصادر بدت حينها موثوقة، لكنها كما حال مصادرنا العراقية "الموثوقة" اليوم، تتحكم فيما يجب أن يصل للجمهور. وقد يكون هذا حجة دامغة بوجه الذين يروجون للمصادر المطلعة "المرموقة" لكنها مضلَلة، بينما تكمن الحقيقة، أو ما يحاكيها، في مصادر لا مصلحة لها فعليةً في خداع الجمهور. إنها مسألة اختيار قائم على مبدأ المهنة الحقيقي.

تكوين العلاقات مع منافذ المعلومات ليس سُبّة على الصحافي، بل مهمة أساسية وعضوية لإنجاح عمله، لكن يجب ألا يكون ذلك جزءاً من عمليات تضليل منهجية، ترتدي غطاء مغرياً من "معلومات" ستبدو لاحقاً لا شيء على الإطلاق.

يتحمل هذا النمط من النشر مسؤولية التحكم بخيارات الجمهور السياسية، توجهاتهم الانتخابية، التقييم الشعبي للأداء الحزبي، وشيئاً من تغذية الخطاب الطائفي وتداعياته، وبينما حدث كل هذا يشعر منتجو الإعلام العراقي بالفخر والزهو لأنهم فقط يملكون قناة تدر عليهم بمعلومات بوجه واحد، تمنعهم أصلاً من احترام الجمهور برواية رصينة من وجه آخر، من قنوات أخرى تجعل قصتهم كاملةً، تحترمُ الجمهور.

المدى 

AM:02:22:29/10/2018