الصورة قرينة على البؤس
علي جازو




كان ينقضي وقتٌ حتى تأتي الصورة وتسكن إلى يد المصوّر، حتى تنضج وتستوي وتتحول إلى ذكرى أمام عينيه. وكانت ثمة مسافةٌ بين التصوير فعلاً والصورة أثراً. لقد أُلغي الوقت مع التصوير الحديث والكاميرا - العين التي أعدمت كلَّ انتظار، وتقلصت المسافة بينهما على نحو خانق.

يكاد شيوعُ الصورة، على ما وصل إليه حال التصوير الراهن من طغيان، أن يلغي جمالها ويأتي على ما تبقّى من قوة ذاكرتها، ويودي بعقود من حصانتها إزاء فوات الوقت وضياع الفرصة، تلك الأمور التي حثّت محبي الصورة على القبض عليها خلواً من ضياع الأثر وشاهداً صامداً على قوة الحقيقة.
منذ أن صارت الصور متاحة على نحو سهل لكل واحد بدت أكثر ابتذالاً، ولم تلغ كثرتها المستفحلة بؤسها الطارئ.
لم تعد مُوثِّقة الوقت ومُؤبِّدة اللحظة وشاهدة العصر، طالما غدا التشابه قرين عملها، وعززت الخدعة من ضعف صدقيتها وضاعف المزج والتركيب من ضبابيتها حتى صار نقاؤها علامة على بردها الرتيب.
ليس الشغف ولا الجوع إلى الحقيقة وحدهما ما يدفع إلى التصوير هذه الأيام. حلت اللامبالاة محل الحرص مذ غدا الأخير حامل الكسل وعنوان شقائه على حال أبنائه. الكثرة غدت قرينة المحو والنسيان، إذ لا فرادة بعد اليوم لأحد ولا أسبقية لواقعة على أخرى، فالكل، أحداثاً وأشخاصاً، أسوياء أمام العين - الكاميرا التي لا تذر ولا ترحم أي شيء، من الحصاة الدنيا إلى القمر الأعلى ومن الليل البهيم إلى قلب النهار.
قد يكون تحويل الواقع إلى الصورة عملاً ضد الواقع الذي تدّعي الصورة حمله والذود عنه 




أمام من يدّعي نكرانه. لحظة التصوير لا تدع وقتاً لانتظاره، فالفورية سمة سرعة مجنونة سرعان ما تبدل حال بحال وتطوي واقعة على أخرى دونما تأنٍّ ولا تراتب. هذا الازدحام الغابي (من الغابة) يعيد إنسان الصورة إلى الكهف كما أعادت التكنولوجيا المرض إلى الفقراء مرئيين، لكن بلا عون من أحد وبلا شفاء من أي يد.
الفصل البارد الذي تجنيه الصورة منذ أن باعدت الأثر على نحو متكالب، لكثرة ما أتت عليه مرة عقب أخرى، حوَّلَ الصورة إلى حاجز بدل أن تكون صلة وإلى مانع عوض أن تكون مانحاً.
القربُ اليومي لكل حادث ألغى بعده الحقيقي وأثره المديد. ما يقال عن الصلة بين الواقع والحقيقة لا يكفي لحماية حصانة الصورة إزاءهما، ثم ماذا تكون النتيجة إذا ما كثرت الصور وقلت القيمة، إذا ما هانت الحقيقة واستصعبت على اليد ثمرتُها.
لعل في صور المأساة السورية، على كثرتها واختلاطها، ما يعزز الميل إلى تصور يائس كهذا على مدى قوة الصورة وقدرتها على تحريك المشاعر وصون الحقيقة. الحقيقة التي هي ملك اليد الآن لم تعد ذات نفع لأحد. إنها صورة، وحالها من حال سواها سواء بسواء!
 
 
* كاتب سوري
 
(alhayat)

AM:01:47:18/07/2015