زمن إعلامي جديد: لا مجال للتحكم عن بعد
علي هاشم




في عالم عربي تتنازعه محاور وسياسات وأنظمة تتسابق لشراء مؤسسات إعلامية ولتأسيس أخرى، يبدو هامش الاستقلالية في حده الأدنى، بل وهو مشغول فقط من قبل من قرروا في لحظة ما أنهم يريدون أخذ المبادرة لتأسيس كيان صحافي أو إعلامي خارج الصندوق التقليدي. هؤلاء ساروا عكس السير على طريق سريع، لذا فهم أكثر عرضة للتصادمات من غيرهم.

لربع قرن مضى شكلت الثورة الفضائية مرتكزاً لتغييرات مجتمعية جذرية على امتداد بلاد المنطقة. هي غيرت نظرة الشعوب النمطية للتلفزيون الذي كان قبل تلك المرحلة عبارة عن صندوق ضيف، يحضر إلى غرف جلوس أصدقائه من الساعة الخامسة أو السادسة مساء وحتى الثانية عشرة ليلاً. كان حضوره حينها يترافق مع بث النشيد الوطني وآيات من القرآن الكريم ثم فترة الصغار الموحدة وبعدها الأخبار والمسلسل أو البرنامج الليلي، ومن ثم ينام الجميع ملء جفونهم، فلا شيء ليخسروه ولا شيء يفوتهم، كانت القناعة سمة من سمات المجتمع، إلا قليلاً.
كانت نشرة الأخبار عبارة عن استعراض لنشاطات الرئيس والحكومة، إلا ما رحم ربي. في معظم الدول العربية لم يكن هناك محل للنقاش أو وجهات النظر، بل إن وجهة النظر كانت مكلفة جدا، وأحيانا، بل وفي أكثر الأحيان، تكلف الحرية أو الحياة. كان النموذج العربي يعتمد على التنفيس من خلال المقالات الصحافية، أما التلفزيون فخط أحمر لا يحتمل أي نوع من التعدي كونه وسيلة للعوام، تجمع الأطفال والنساء والرجال وتجعلهم عرضة لبث الأفكار التي قد تنظر إليها بعض الأنظمة على أنها خطر على الأمن القومي.

في لحظة سياسية تاريخية، كان لا بد من تغيير في النمط السائد، وإن كان التغيير جاء متأخراً عن السياق العالمي. بعد عملية عاصفة الصحراء العام 1991 والحالة الإعلامية الضخمة التي صنعتها «سي إن إن» الأميركية بتغطيتها للحرب، استفاق العرب على أن عالما جديدا أصبح في متناول اليد. لم تكن البداية سهلة، احتاجت بضع سنوات لتبدأ القنوات العربية بالظهور واحدة تلو الأخرى مقدمة للجمهور العربي مساحة واسعة من حرية التعبير لكن ضمن إطار النظام، أو لنكن أكثر تحديدا، ضمن إطار السقف المحدد من الدولة الممولة.
جاء غزو العراق ليرسم معالم الحرب على الهواء، بدأ الصراع البيني العربي ـ العربي ينعكس على الشاشات قصفاً مباشراً وضرباً تحت الحزام. كان الجمهور منقادا بشكل كبير نحو القنوات الإخبارية الكبرى، سياسيا، واجتماعيا، حتى أضحت رافدا أساسيا 

للوعي ومحفزة للأفكار. بدا وكأن الشارع العربي أصبح معدا للولوج إلى مرحلة جديدة، مرحلة ما يعرف بـ «الربيع العربي».
كان «الربيع العربي» مناسبة للإطلاق السياسي لوسائل التواصل الاجتماعي في العالم العربي. قبل ذلك، كانت هذه الوسائل تستخدم أكثر كمنصات تعبير محدودة وأدوات مجاملة وتعارف، والأهم أن أكثر الناس البالغين كانوا ينظرون إليها على أنها للشبان والشابات ممن ليس لديهم شيء يقومون به. لم يكن أحد هؤلاء ليصدق أن هذه الوسائل ستصبح لاحقا عماد زلزال سيصيب المنطقة ويجر في إثره كل وسائل الإعلام الجديد والقديم إلى تغطية طويلة وممتدة ولا تنتهي على مدى سنوات. هكذا كسر الاحتكار الرسمي لعملية الاتصال العام وأصبحت صفحات «الفايسبوك» وحسابات «التويتر» لبعض الشبان، ممن لهم حيثية سياسية أو اجتماعية، أكثر متابعة من وسائل إعلام قائمة بحد ذاتها، أكثر من الصحف والإذاعات وبعض القنوات.

لم تعد وسائل التواصل الاجتماعي وسائل للتواصل الاجتماعي فحسب، تحولت إلى منصات سياسية وإعلامية، أصبحت مساحة للقنوات التلفزيونية والشبكات الإعلامية للهروب في حال تعرضت للقطع أو التشويش، فلا أحد بإمكانه إسكات الصوت الجديد، وكل محاولة للإسكات ترتد على صاحبها بالمزيد من الانتشار لمن يحاول إسكاته. تحولت هذه الوسائل أيضا إلى منصات للإعلام البديل الذي كان في السابق يحتاج لعشرات الملايين من الدولارات ليبث على الهواء، وإذا به اليوم وعبر تطبيقات مجانية أو رخيصة الثمن يخرج على الهواء ليخاطب العالم باللغة التي يريدها وليوصل صوته بينما مقص الرقيب والأمن وأصحاب رؤساء الأموال الرسمية والمحاور السياسية والنظام الموحد الذي لا يُرى ولا يُسمع لكنه يُشعَر، في حالة عجز غير مسبوقة، فإغلاق القنوات لم يعد يجدي، والطرد عن الأقمار الصناعية لا معنى له، والتضييق والتهديد، كل هذا أصبح من الماضي ما دام هناك هاتف جوال عليه مجموعة تطبيقات تسمح لمن يحمله بالتعبير وقول ما يريد. هكذا ولج العالم العربي إلى ما يمكن وصفه بمرحلة الإعلام البديل من باب الإعلام الجديد، بينما كان الغرب قد دخل هذه المرحلة قبل سنوات ومن باب الإنترنت عندما أُطلقت قنوات تلفزيونية كـ Democracy Now و Real News Network، وغيرها على الشبكة العنكبوتية وصنعت لنفسها إسما، وتحولت في زمن التواصل الاجتماعي إلى نموذج تحتذي به مؤسسات النظام السائد للإعلام والتي بدأت تستنسخ تلك التجارب لكن بنكهة مختلفة.

في هذا الخضم تبدو حادثة منع قناة الميادين على عربسات مناسبة جدا كمثال. فالقناة الشابة تمكنت في فترة قياسية من تحقيق تأثير في أكثر من مستوى وكسر حلقة السيطرة لمؤسسات النظام السائد للإعلام، بل وتحولت لدى نسبة مليونية من العرب من المغرب إلى الخليج إلى مصدر رئيسي للأخبار، بل هي في معالجتها للأخبار قدمت رؤية مختلفة للمفاهيم التي كان الإعلام الآخر يعمل على تثبيتها لدى المتلقي. صدر القرار بإخفات صوت الإعلام الآخر المختلف، فجاء الرد من منصات الإعلام الاجتماعي بأن زر خفت الصوت لم يعد متوفراً، على جهاز التحكم الإعلامي عن بعد.

assafir

PM:01:12:16/11/2015