انتكاسة نظام العدالة العراقي
مشرق عباس
لايمكن الحلم بأي اصلاح فعلي للخراب العراقي، من دون نظام عدالة واضح يصوغ المجتمع معاييره، ويحظى باتفاق شامل، وتحتكر الدولة السلطة الحصرية لتنظيمه وتطبيقه على الجميع، لان الضرب في نظام العدالة، عبر معايير انتقائية وتطبيقات قانونية مشكوك في توازنها، ومن ثم اخضاعه الى الارادات الخارجية مرة، والى التحالفات السياسية مرة اخرى، كان ومازال يطعن بكل حلم مشروع لاستعادة العراق بوصفه دولة هامة في المنطقة.

ليس هناك مناسبة محددة لهذا الحديث، فكل الاحداث العراقية تعيد التذكير بفداحة الطعن بانظمة العدالة، ابتداء من المنظومات القانونية والقضائية التي تعرضت الى شتى انواع التنكيل والتهديد والطعن والتحايل، وليس انتهاء بالنظام القانوني المرتبك وغير المنضبط على ايقاع ما، او على ساعة وطنية ما، من دون تجاوز الآليات والانظمة المؤقتة التي من شأنها الانتقال بمجتمع من مرحلة فوضى اللادولة الى الدولة، والتي يطلق عليها عموماً "انظمة العدالة الانتقالية”.

بعد عام 2003، كانت الآمال متجهة الى الخبرات القانونية الاميركية لصوغ نظام عدالة انتقالي عراقي يقود الى نظام عدالة دائم، وعلى الورق يمكن تلمس بصمات اميركية في قوانين مثل "اجتثاث البعث” و”هيئة النزاهة” و”هيئة نزاعات الملكية” و”دوائر المفتشين العموميين” و”الهيئات المستقلة” باعتبارها جميعاً تندرج في الاطار "الانتقالي”، لكن واقع الحال اثبت ان من صاغ هذه الرؤية عسكر اميركا وليس مفكروها، وليس خبراؤها، وليس مبدعوها وعلماؤها، وبالضرورة ليس العراقيون انفسهم، فكانت النتيجة ارباكا شاملاً وتخبطاً مستمراً، وتصدعاً غير مسبوق في مؤسسات الدولة، بل في الدولة نفسها التي وجدت نفسها امام انظمة ادارية وقانونية متضاربة وغير متوافقة.

بعد عام 2008 وفوضى الحرب الاهلية، كان منتظراً ان يكون للعراقيين دور في اعادة صوغ انظمة العدالة بما يحقق الانتقال المنشود الى مرحلة السلم الاجتماعي الدائم، ولكن ماحصل ان القوى السياسية التي هيمنت على القرار السياسي لم تكن بمعرض تحقيق العدالة بل سعت الى اجراءات انتقامية لاتنتمي الى الدولة بل الى نظرية الغالب والمغلوب في الحرب الاهلية، فغامرت بتعريض البلد الى نكسات امنية وسياسية واجتماعية متتالية.

ان القوى المعنية بالموضوع كانت تعي تماماً نتائج تصلبها امام تطبيق انظمة العدالة على الجميع وايقاف الانتقائية في فرض القانون، والتغافل عن تطبيق مرحلة العدالة الانتقالية بالكامل، وذلك الوعي ليس امتيازاً، فشيخ عشيرة ربما غير متعلم في اقصى جنوب العراق او اقصى شماله كان يعي عبر التجارب المتوارثة طبيعة العدالة التي كرسها النظام القبلي التقليدي الذي وجد وانتعش في غياب الدولة او ضعفها لضمان العدالة في حدود قوانين سنها الاولون، ولم يكن الامر بحاجة الى جهابذة سياسة لاكتشاف ان الامم تداوي جراحها الداخلية بنفسها، وتطوي صفحات اختلافها، وتصوغ النظم والقوانين لمعاقبة المرتكب وانصاف الضحايا، وانها تنجح فقط عندما تكون عادلة في تطبيق اجراءاتها.

لم يتصور حتى أكثر اليائسين والمحبطين، ان امة مرت بمحنة كبرى كمحنة "داعش” كادت تودي بها وبمن يعيش على ارضها، وتخرج منتصرة ولكن مخضبة بالجراح العميقة، يمكن ان تقف متسمرة مرة اخرى واخرى، امام مشهد احزابها وهي تحتكر توجيه الاتهامات ومنح صكوك البراءة مستندة الى مصالح حزبية واعتبارات اقليمية، بديلاً عن انظمة "عدالة” شاملة تعالج كل الارتكابات وتعيد التأسيس للدولة واعتباراتها وللسلم الاجتماعي، وتراجع كل النواقص والمثالب التي قادت الى انتكاساتها المتكررة.

مشهد الرثاثة العراقي في التعامل مع ارث "داعش” يعيد استنساخ رثاثة التعامل مع ارث نظام صدام حسين والبعث، وفي معالجة مرحلة المجموعات المسلحة والحرب الاهلية، ومرحلة تنظيم "القاعدة” ، بل ان عناصر وربما قادة "داعش” انفسهم لا يحلمون باكثر من هذه الهشاشة والسطحية والانتقائية والانتهازية في التعاطي مع كل ما ارتكبوه من جرائم!.

دولة العدل في العراق، مازال طريقها طويلا، ولا يبدو ان المجموعات السياسية التي مازالت تنظر الى المآسي كفرصة للتربح وصناعة تجار وامراء حروب جدد، بمعرض المضي اليه..

كلمات المفتاح:

NAS


AM:07:55:14/01/2019