عن زها حديد... وحاجتنا لأبطال من صلبنا
بيسان الشيخ



رحلت المعمارية الرائدة زها حديد، وفاض سيل من العواطف والمواقف حيال غيابها المفاجئ والفراغ الذي ستخلفه مهنياً وإنسانياً، حتى كاد الوضع يشبه ما كتبه أحد الأصدقاء على صفحته في موقع «فايسبوك»: «يبدو أني الوحيد الذي كان ينام من دون أن يتلقى اتصالاً من زها حديد تتمنى لي فيه ليلة سعيدة».

وانصبت غالبية العواطف على تأكيد الخسارة الجسيمة لغياب قامة «نسائية» و»عربية» عن الساحة العالمية في ميدان لا يزال إلى حد بعيد حكراً على الرجال، في وقت لا تحمل أخبار النساء القادمة من هذه المنطقة إلا على المزيد من التشاؤم.

وتركز الحديث عن مسيرة حديد وكيفية تشكل وعيها الهندسي، حول محطات مبكرة من حياتها في بغداد وبيروت مروراً بالقاهرة، فانتشرت اقتباسات عاطفية من إطلالات إعلامية لها، أفصحت حديد خلالها عن «حنين لمدن تعبرها أنهر» و «جامعة (الأميركية في بيروت) عاشت فيها أسعد أيامها» وغير ذلك مما يثبت انتماءها «العربي» في شكل أساسي. وذهب بعض الغيارى أبعد من ذلك، إذ ابدوا استياء صريحاً من تعريفها في الصحافة الغربية كمهندسة بريطانية من أصول عراقية، في رغبة استحواذية لتأكيد هويتها الأولى، العراقية - العربية، التي يجب وفقهم أن تطغى على أي هوية (أو هويات) لاحقة.
وأما أصحاب المواقف، الذين رغبوا في بعض التمايز خروجاً عن سرب المعجبين بحديد وفنها وابتكاراتها الهندسية وتصاميمها التي طاولت الأزياء والأحذية، فبحثوا لها عن مواقف سياسية رمادية حيال ما يجري في المنطقة، كمأخذ ضدها، وتصريحات تنأى فيها بنفسها عن الأوضاع المزرية والظروف اللاإنسانية للعمال والبنائين الذين ينفذون أعمالها.
وإضافة إلى هذا وذاك، تلقّت المهندسة بعد رحيلها جملة من الانتقادات اللاذعة لقبولها تصميم مبان وصروح عامة في «بلدان غير ديموقراطية» ولمصلحة «حكام سلطويين»، حتى اتهمها بعضهم بأنها كانت لتقبل بالعمل للرئيس العراقي المخلوع صدام حسين.
وبين نقيضّي العواطف والمواقف، يسهو كثيرون عما حاولت حديد أن توصله من رسائل عن نفسها ومهنتها وبلدها وعن كونها امرأة، سواء بالأفعال أو الأقوال الأكثر جدية وعمقاً. فهي إذ استلهمت تصاميمها الغرائبية من مبدأ «تحدّي الجاذبية»، وعملت على ترجمة النظرية واقعياً، أعلنت في أكثر من مناســـبة أن «أكثر مشاريعها فشلاً كانت في العالم العربي»، وأن «العرب لا يحترمون الإنسان بما يكفي»،
 
لأنهم يفضلون الأجانب عموماً لاسيما إن كانوا «رجالاً... وأميركيين». وإذ أُعلنت حديد «نجمة الهندسة المعمارية» سألت لدى تسلمها الجائزة إن كان ذلك لقباً يمنح للرجال أيضاً أم يتم الاكتفاء بوصفهم «مهندسين». وعن حقوق العمال وظروف عملهم، ميّزت حديد بوضوح بين مسؤولية الأفراد ومسؤولية الحكومات، وحدود سلطة كل منهما.

والحال أن في ذلك كله وغيره من مواقف حديد العامة والخاصة، ما يقول الكثير عن وعي تشكّل بعيداً من ضفاف دجلة والنيل، وأقرب إلى تايمز لندن.
ولكن، فيما لم تنتزع حديد اعترافاً عربياً إلا وقد تكرّست عالمياً وتركت بصمة بحيث ما عاد ممكناً تجاهلها، وفيما هي تبني ونحن ندمر، ارتأينا أن نساجلها ونحاسبها حول احتمالات العمل لمصلحة ذلك النظام أو غيره، بدل أن نسأل أنفسنا عما كانت ستنجزه لو بقيت في عراق صدام حسين في الأصل. كما لم نسأل ماذا قدّمت وتقدّم بغداد وبيروت والقاهرة لشبابها غير الفشل السياسي المتراكم وانسداد الأفق وسلسلة من الحروب والهجرات المتلاحقة.
وإلى ذلك، لم يتوقف كثيرون من محبي «النوستالجيا» والمتعلقين بصورة رومانسية عن المدن ذات الأنهر، عند وقائع اجتماعية وسياسية واقتصادية متشعّبة عاشتها تلك العواصم العربية في زمن كانت فيه حديد يافعة تحاول شقّ طريقها في الحياة كغيرها من أبناء جيلها وبناته.
أما وقد أنجزت ما أنجزته في الخارج، يصبح من السهل علينا طبعاً أن ننسبَ نجاحاتها لمكوّنٍ ما فينا، يقرّبها منّا ويجعلنا شركاءها في شكل أو آخر وفق موقعنا. هكذا نذكرها مرّة بصفتها عراقية ومرّة عربية أو مسلمة أو أنثى... ولا نلتفت إلى ما كان سيفوتها فيما لو أقامت بيننا، من جودة تعليمٍ وفرصٍ متكافئة وآفاق واسعة وما تعانيه مواهب دفينة أخرى في ظلّ أنظمة تقنّن المعرفة، وتقمع الإبداع، وتُجهض الأفكار.

والحال أن ما أصابنا اليومَ برحيل زها حديد، يشبه إلى حد بعيد ما كابدناه قبل مدة غير بعيدة مع رحيل ستيف جوبز، مؤسّس شركة «أبل» العملاقة. اتكأنا على ما ذكرته الصحافة الغربية من أصل سوري لجوبز، كما قد ترد أي معلومة حيادية تسحب من السجلات العامة، لنجعلَ لنفسنا حصةً في إنجازاته، ونكتبَ فيه المديح والنعي بصفته خسارتنا نحن. ثم رحنا نبحث عن أشباه له حاليين أو مستقبليين بين وجوه اللاجئين السوريين إلى أوروبا، غير مكترثين بتجربة كلٍّ من جوبز وحديد وغيرهما من المبدعين العالميين في بلدان ليست بلداننا، وتكريسهم أبطالاً من غير صلبنا.

مفهومٌ أن تكون حاجتنا الملحة للإنجاز وراء فورة مشاعر متناقضة كهذه، ولعل ذلك يشي ببعض البراءة الطفولية والرغبة في التمسك بأي بارقة أمل.

لكن الحدّ الأدنى من الشفافية مع الذات والرغبة في التصدي لذلك الاهتراء الذي يطوّقنا، يقتضي الاعتراف بأن زها حديد ليست بطلتنا ولا قصة نجاحنا نحن... والأسوء انها ربما لو بقيت بيننا لحّولناها إلى مجرّد قطعةِ خردة صدئة.
 
 
alhayat

AM:06:28:06/04/2016