جلال زنگابادي أبٌ يحمل كفن ولده ويبحث له عن قبر ..!
فخري كريم

يكتب في انواع أدبية مختلفة. يترجم عن أكثر من لغة. لم ينقطع عن نشاطه الدؤوب في عالم الصحافة والأدب والشعر، مذ عرف سبيله الى مهنة الإعاقة والنكران والعقوق. كاد أن يموت قبل سنوات لأنه واجه محنة جراحة قلبٍ مفتوح، وليس له ما يعينه على إجرائها، وقد أفلت منها قبل أيامٍ من إنتهاء الوقت المقرر بين الحالتين، الجراحة أو الرحيل ..!

كان ذاك الميت الحي هو الكاتب والشاعر والصحفي جلال زنگابادي. إنتبهت الى وقوفه على مقربة مني، وأنا أدلي بحديثٍ تلفزيوني سيّار. وجدت على ملامحه فيضاً من الكآبة والشجن والتساؤل الخجول. بادرني بكلامٍ غير مفهوم، لا يُسمع إلا بصعوبة. وهي حالة إرتبطت بفقدانه حاسة السمع بعد إجراء عملية القلب المفتوح، وحين أدرك أنني لم أفهم ناولني ورقة صغيرة قرأت فيها ما يكفي لقتل شعبٍ بأسره، أو أنه نذيرٌ بمحنتنا، بمصائبنا، برثاثة أحوالنا، بغربتنا عن هذا العالم الغرائبي، قرأت في ورقته، "إن إبني يموت خلال ساعات، ولم ينفع معه كل ما بذلناه لشفائه من كابوس الورم الخبيث. إنه في الثلاثين من عمره. المسألة انني لا املك ما يعينني على دفنه" ..!

من إحساسي بالخذلان، وكأنني هو، هذا الأب المنذور للفقدان، تمالكت نفسي لأول مرة في مثل هذه الحالات، ولم أذرف دموعاً، ولم أجد تعبيراً للشجن سوى أن أتوارى عنه دون أن أرد عليه، وتهت في أروقة المعرض. لأعود الى وعيي بعد قليل، وأتنبه الى أن ما كنت أعتقده تمالكاً للنفس في التعبير عن الشجن، إنما هو إيذان "بتبلد الأحاسيس"، فليس في المآقي ما يمكن ان ينسفح دموعاً، كلما إنتابتني نوبة حزنٍ وشجن .!
" أخي الأكبر الأعز ..
آمل مساعدتكم الإنسانية العاجلة، لإبني الشاب هوزان (٣٠ سنة) المصاب بالسرطان، ولم تفلح معه دورات العلاج هنا وفي عمان وإيران بمساعدة أصدقاء طيّبين وبعض المحسنين. وهو الآن في شبه إحتضار. في حالة عجزٍ شبه تام عن الحركة والوقوف والمشي ودخل حالة الهذيان والهلوسة، وهو على سريرٍ طبّي في البيت، يقوم أخوته بتمريضه، بالتناوب، ليل نهار، وننتظر المقدّر ..!
وأنت تدري .. أنا معلمٌ متقاعد ..! '"

كيف لمقلتي أن تجفا، وكيف لمشاعري أن تتبلد، وكيف لضميري أن يتصابر، وهذا الهول لم يعد شبحاً يجول في بيت جلال زنگبادي. وهذا الموت العبثي لم يعد حالة تخطف روحاً انتهى أجلها، أنها فجيعة صارت قدر كل عراقي لم يتعلم أصول الفساد، لم يتراخ أو يغمض عيناً في لحظة ألمٍ ممض، فيتصالح مع نفسه ويسرق ..
كيف إسترجع دموعي ، وبأي وسيلة أستعيد نُهير دموعي لتفيض ...

متى ينزاح عن العراقيين شبح الموت وهو يرافقهم في حلّهم وترحالهم، نذيراً شؤوماً، لتستعيد الأحزان على الفواجع طبيعتها، كشجنٍ على فقدانٍ آن أوانه ..

متى يتوقف مشهد الموت العبثي وكأنه قربانُ لأتقيائنا اللصوص ..
متى لا يواجه الأب الكسير موتاً يتعذر عليه أن يجد له قبراً يستريح فيه دون أن يضطر لحمل كفن ولده طلباً للرحمة ..
متى أستعيد طاقة الشجن على حياة تمضي ولا تمضي ..!


المدى برس/ بغداد 


PM:02:58:08/04/2016