مؤسّسات الأخبار الأوروبية في عصر التشويش الإلكترونيّ
تشان وانغ
ترجم هذا المقال بالتعاون مع نيمان ريبورت - جامعة هارفارد

صحيحٌ أنّ الأمر بات ممجوجًا من كثرة التكرار، ولكن لا مفرَّ من تكرار هذه الحقيقة من جديد هنا: لقد أعلنت ثورة الإعلام الرقميّ الانقلاب على كلّ ما يمثّله كبار الناشرين أصحاب العراقة في هذا المجال لعقود عديدة: الإنتاج القويّ المطبوعات، وعائدات الإعلانات، وقاعدة من القرّاء المخلصين الذين يفضّلون الحصول على أخبارهم مباشرة من مؤسّسة الأنباء المفضلة لديهم، وحتّى الكلمة المكتوبة التي كانت صاحبة الحضور الساحر في الأيام الخالية.

صدر تقرير جديد عن معهد رويترز فيه تفصيل لهذه التغيّرات التي طرأت على 25 مؤسسة من مؤسسات الأنباء الخاصّة العريقة في ست دول أوروبيّة، إذ يؤكّد هذا التقرير تلك التوجّهات المألوفة في عالم النشر الرقميّ. ومن خلال عشرات المقابلات التي أجريت مع كبار المدراء والمحررين ومسؤولي الإستراتيجيات، فإنّ التقرير يلقي الضوء على مبادرات جديدة قد أقدمت عليها العديد من هذه المؤسسات بهدف وضع عمليّاتهم المتعلقة بالأخبار في المسار الرقميّ الصحيح، رغمَ أنّه ليس ثمّة إجماع، بطبيعة الحال، على ماهيّة هذا المسار "الصحيح" وما يجب أن يكون عليه. (وقد حاول المؤلفون التركيز بشكل متوازن بين الصحف الرسميّة وقنوات البثّ التجاريّة والصحف الإقليميّة، وعليه فإنّ التحدّيات تتباين من قطاع إلى آخر).

ففي فنلندا وفرنسا وألمانيا وإيطاليا وبولندا والمملكة المتحدة كانت الصحف وقنوات البثّ التجاريّة مجتمعةً تصل إلى عدد أكبر من الناس عبر الإنترنت مقارنة بوسائل الإعلام العامّة حين يتعلّق الأمر بالأخبار، وإنّ عددا كبيرا من النّاس لا يزالون يحصلون على الأنباء من هذه المصادر عبر الإنترنت لا عبر وسائل الإعلام الاجتماعيّ. كما أنّ النماذج المدفوعة تحظى بالمزيد من الشهرة، وهنالك المزيد من التركيز على الوصول إلى جماهير أصغر حجما، ولكن أكثر ولاء، عبر الإنترنت.

بالنسبة لمعظم مؤسّسات الأنباء التي تناولها التقرير فإنّ 10 إلى 20 بالمئة من عائداتها آتية من الوسائل الرقميّة- وهي نسبة متدنّية بشكل عام لقنوات البثّ. يقول أحد العاملين في إحدى القنوات، والذي فضّل عدم ذكر اسمه: "إنّ التلفاز لم يشهد بعدُ نفس التراجع الذي شهدته الصحف.. وهذا يشكّل تحدّيا من عدّة أوجه لأنّ الحاجة ليست طارئة الآن، والفترة الزمنيّة أطول بكثير، وليس لدينا الآن حالة تفرض علينا أن نصل إلى حلّ عاجل."

إنّ مؤسسات الأخبار مشغولة بإعادة ترتيب مواقعها الإلكترونيّة لتكون مناسبة للتصفّح بالهواتف المحمولة. وتبقى مسألة الاستفادة الماليّة من تصفّح الموقع على الهواتف المحمولة أمرا لم يتمّ البتّ به حتّى الآن. يقول أنتي هارالا، رئيس قسم الخدمات الرقميّة في صحيفة (Iltalehti) الفنلنديّة في حديث مع رويترز "إنّ أعداد الناس الذي يستخدمون الهواتف المحمولة في تزايد ولكنّنا لا نحقّق من ذلك العائدات التي نودّ الحصول عليها". ويقول شخص آخر في مقابلة مع رويترز، مفضّلًا عدم الكشف عن هويته: "أعتقد بكلّ صراحة أنّه ليس هنالك نموذج أعمال في هذا المجال"، وهذا رأي ينمّ عن إحباط وتشاؤم كبيرين.

وفيما يلي بعض الحالات المثيرة للاهتمام من خمس مؤسّسات أوروبيّة دخلت في الدراسة، ويمكن الاطّلاع عليها هنا.

توسيع قاعدة الجمهور الرقميّة، وتعزيز فرص الدعاية
أقدمت صحيفة لوموند الفرنسيّة على مشروعين رقميّين مهمّين: الأوّل هو مشروع Pixels التقنيّ والخاصّ بالألعاب في عام 2015، والثاني هو موقع (Les De?codeurs)، والذي أطلق بداية في عام 2014 وشهد توسعة وتطويرا عام 2016. يساعد الموقعان في توسيع قاعدة قرّاء الصحيفة بهدف تعزيز فرصها في الحصول على المزيد من عروض الدعاية. يقول نبيل واكيم، مدير قسم الابتكار التحريري في الصحيفة (وهو زميل سابق في موقع نيمان):

قمنا في موقع (Les De?codeurs) بتعديل نمط صحافتنا ليناسب قسما أكبر من الجمهور. ولا يعني هذا أنّنا عمدنا إلى التركيز على مواضيع سخيفة، وإنّما يعني أنّنا بدأنا باستخدام نماذج جديدة موجّهة للعرض على الإنترنت بشكل أساسيّ، لتوضيح مواضيع معقّدة بأبسط طريقة ممكنة. وأثناء عملنا على تطوير المشروع فإنّنا وصفناه مازحين بأنّه "النسخة الجدّية من BuzzFeed". كما ساهم فريق (Les De?codeurs) في العمل على مشروع "وثائق بنما" وحققوا نجاحا في توضيح هذا الشأن المعقّد بطريقة مفهومة. وقد كان تجاوب الجمهور مع هذه الجهود جيّدا جدا، إذ ولّد بين 10 إلى 15 بالمئة من الحركة على موقع صحيفة لوموند.

أمّا صحيفة (Iltalehti ) الفنلندية فقد أطلقت تطبيقا إخباريا مبسّطا اسمه (IL Pika) تعرض فيه 25 قصّة إخباريّة منتقاة بعناية، ويعدّ هذا التطبيق بديلًا للتطبيق الرئيسي للصحيفة:

تعدّ طريقة "إعادة التقديم" من الفرص المهمّة لمؤسّسات الأخبار لتستفيد من محتواها بطريقة فعّالة. ويقصد بهذه الإستراتيجيّة التي ذكرت كذلك في تقرير الابتكار الصادر عن النيويورك تايمز أن يتمّ إعادة تقديم المحتوى المتوفّر، على شكل تقارير خاصّة مثلاً، من أجل تلبية احتياجات وتفضيلات مجموعات مختلفة من المستخدمين. وهذا يتيح لمؤسسات الأخبار كذلك فرصة الاستفادة المادّية من المحتوى المتوفّر لديها أصلًا دون تكاليف إضافيّة تذكر.

يقدّم تطبيق (IL Pika) نظرة على أهمّ الأخبار خلال اليوم وأحدث القصص الإخباريّة، ويعرض التطبيق الأخبار في عدّة أقسام، فهنالك المواضيع الأساسية: الأخبار، الرياضة، الترفيه، ومنوّعات. وبوسع المستخدم الراغب في الاطلاع على المزيد من الموضوعات والمقالات أن يستخدم التطبيق الأساسي لصحيفة (Iltalehti)، علمًا أنّ المحتوى في كلا التطبيقين مجّانيّ.

تعامل بحذر مع منصّات التواصل الاجتماعيّ (وبالأخصّ فيسبوك وغوغل)
تشعر المؤسّسات الإخباريّة بشكل عام بأنّه ليس من الممكن التغيّب عن فيسبوك مثلًا، أو عدم التفاعل مع تلك المبادرات والخدمات التي تقدّمها غوغل، مثل صفحات الموبايل المسرّعة (Accelerated Mobile Pages)، ولكنّها متردّدة في الوقت نفسه خشيةَ أن تفقد سيطرتها على علاماتها التجاريّة وقدرتها على توليد الأرباح. وقد رفضت بعض المؤسسات بشكل قاطع أن تنشر قصصها الإخبارية من خلال خدمة المقالات الفورية على الفيسبوك أو أن تنشئ صفحات خاصّة بها على صفحات الموبايل المسرعة من غوغل. يقول جين-لوك برييس، نائب المدير العام لمجموعة لا فيغارو:

ما من شكّ بأنّ هنالك مخاطرة بأنه حين تكون الغالبية العظمى من جمهور المؤسسات الإعلاميّة تتشكّل عبر منصّات وسائل الإعلام الاجتماعيّ ذات الحضور الطاغي -وهذه هي الحال بالفعل في عدد من البلدان- فإنّ قدرتنا على الاستفادة من هذا الجمهور ستتضاءل. إنّها مخاطرة، وخاصّة أنّ منصّات وسائل الإعلام الاجتماعي هذه لديها سجلّ حافل في التغيّر المستمرّ والجذريّ في كثير من الأحيان على سياسات ترويج المحتوى فيها.

خدمة المقالات الفوريّة مثلًا لا تستوعب الناشرين أصحاب الاشتراكات الإلكترونيّة، وحول هذا يقول ستيفان بلوشنغر من صحيفة Su?ddeutsche Zeitung الألمانية:

نحن لا نشعر بأنّنا نلقى معاملة سيّئة، ولكنّك سرعان ما ستشعر بالإحباط حين تدرك أنّ مشروعا مثل المقالات الفوريّة على الفيسبوك لا يبذل أيّ مجهود على سبيل المثال ليمكّن من وجود نموذج للمواقع التي تفرض اشتراكا على مستخدميها. ولذلك فإنّنا لن نكون جزءا من هذه الخدمة، لأنّ الاشتراك جزء ضروري من نموذج الأعمال لدينا.. ونحن ندرك أنّ التواصل معهم يتوقّف مباشرة حين نرغب في مناقشة نماذج الأعمال المجدية بالنسبة لنا.

كما ترفض قناة RTL الألمانيّة التعامل مع خدمة المقالات الفوريّة، وبدلًا من ذلك فإنهم يستخدمون منصّات وسائل الإعلام الاجتماعيّ لعرض ملخّصات تشويقيّة للمحتوى من أجل تسويقه وتحقيق العائد الماليّ المرجوّ. كما قرّرت صحيفة لوموند التوقّف عن الاعتماد على خدمة المقالات الفوريّة وصفحات الموبايل المسرّعة من غوغل، وقررت الاستفادة من سنابشات ديسكفر (Snapchat Discover) وذلك لأنّها ترى في سنابشات "فرصة للوصول إلى جماهير جديدة وليس منافسا آخر في عالم التسويق".

تحقيق العائد المالي على مقاطع الفيديو الرقميّة
تبيّن أنّه في كلّ الدول التي شملتها رويترز في تقريرها أنّ "عائدات إعلانات الفيديو تنمو بشكل متسارع يفوق عائدات الإعلانات الإلكترونيّة". وقنوات البثّ لديها الأفضليّة هنا بالتأكيد، ولكن من لديه يا ترى إستراتيجيّة ثابتة لتحقيق العائد المالي على مقاطع الفيديو الرقميّة؟

لدى صحيفة لاريبوبليكا الإيطالية فريق مختص بالإعلام الرقميّ يتألف من 30 شخصا مسؤولين عن نشر 130 إلى 150 مقطع فيديو يوميّا (تكون خليطا من مقاطع يتمّ إنتاجها داخل الوحدة، ومقاطع يتمّ شراؤها من الوكالات، ومقاطع فيديو تحصل عليها من شبكة منتجي الفيديو العاملين مع الصحيفة). وفيما يلي وصف لإستراتيجية الصحيفة كما يوضّحها بيير باولو سيرفي، المدير العام لقسم الإعلام الرقمي في مجموعة (Gruppo L’Espresso) وهي المجموعة المالكة للصحيفة، يقول:

في المرحلة الأولى من تطوير محتوى الفيديو عبر الإنترنت عمدت الصحيفة إلى الانتقال من الأخبار التي تدور حول النص إلى الأخبار التي تدور حول مقاطع الفيديو، أمّا في المرحلة الثانية فإنّ الصحيفة قد سعت إلى توسيع ما تقدمه من مقاطع فيديو عبر الإنترنت محاولة أن تتناول مواضيع تتعلق بالترفيه والمنوّعات المتعلقة بالحياة اليوميّة. وضمن هذه الإستراتيجية قامت الصحيفة الإيطالية مؤخرا بإطلاق برنامج Webnotte، وهو برنامج موسيقي أسبوعيّ يستضيف أشهر المغنين وفرق الغناء الإيطاليّة. وتعرض حلقات هذا البرنامج عبر خدمة البثّ المباشر كما يتّم تقديمها على شكل "مقاطع حسب الطلب" (VOD) تُوزّع وتُنشر عبر فيسبوك بالتحديد. وكل حلقة يشاهدها عادة من 300،000 إلى 400،000 زائر. وهكذا فإنّ الاستثمار في أشكال جديدة من المحتوى الذي لا يتعلق كثيرا بالأخبار قد أتاح لصحيفة لاريبوبليكا أن تصل إلى جماهير جديدة وأن تحصل على عروض رعاية جديدة.

وتطمح لا فيغارو إلى إطلاق قناة تلفزيونيّة تبثّ عبر الإنترنت نهاية هذا العام، ووفق ما يقول مديرها العام بريسي فإنّ هذه القناة:

لن تكون قناة أخبار تقليديّة تبثّ الأخبار على مدار الساعة. ستحمل القناة بصمة "لا فيغارو" فيما يتعلق بالموقف السياسيّ واللهجة والإطار العام، وذلك من خلال التحليلات والتعليقات على الشؤون الجارية، ولكن على شكل بثّ مباشر، بالإضافة إلى مقاطع الفيديو حسب الطلب. كما لن تحصر القناة تركيزها على المواضيع السياسيّة والاقتصادية وحسب، بل ستتناول قضايا ترفيهية ومتنوّعة.

وهنالك إستراتيجية أخرى تتعلق بتلقيم المحتوى (Content Syndication). قامت صحيفة (La Voix du Nord) الفرنسيّة اليوميّة الإقليميّة ببناء منصّة لعرض مقاطع فيديو تركّز على شؤون المنطقة تدعى (My Video Place):

يشارك في إنتاج مقاطع الفيديو أيضًا صحف وقنوات إقليميّة أخرى ضمن المشروع، وبإمكان المؤسّسات الإخباريّة الأخرى استضافة مقاطع الفيديو على منصّاتها ويتم تقاسم عائدات الإعلانات بين الأطراف الثلاثة: المستضيف، والمنتج، ومنصّة My Video Place. ويوضّح بيير ماوتشامب، نائب رئيس تحرير الصحيفة أنّ هذه المنصّة تزداد أهمّية كأحد مصادر الدخل للصحيفة لأنّ مؤسسات الأخبار المحليّة كثيرا ما تكون لديها الحاجة للحصول على مقاطع فيديو حين تقع بعض الأحداث المهمّة على المستوى المحلّي.

AM:03:33:20/02/2017