توافد الصحفيون على "بيت الصحافة”، لأخذ ستراتهم الواقية من الرصاص ذات اللون الأزرق الفاتح؛ من بينهم المصوران الشابان محمد صبح وهشام نواجحة، اللذان احتفظا بسترة ثالثة لزميلهم الصحفي سعيد الطويل. وفي وقت لاحق من ذلك اليوم، ذهب الثلاثة إلى مبنى الغفري، وهو المبنى الأعلى في غزة الذي يوفر نقطة مناسبة للتصوير الليلي. (تعرّف معدو التحقيق على مسار تحركاتهم بعد إجراء محادثات مع 11 مصدراً، بما في ذلك آخرون كانوا يخيمون فوق المبنى)
وبعد منتصف الليل، انتشرت أنباء مفادها أن ضابطاً إسرائيلياً اتصل هاتفياً، طالباً إخلاء برج حجي؛ وهو مبنى مكون من 11 طابقاً، يقع على بعد 400 متر من برج الغفري. تتخذ عدة مؤسسات إعلامية من هذا البرج مقراً لمكاتبها، وهرع الصحفيون العاملون في وكالة الأنباء الفرنسية إلى خارج البرج، عقب التحذير الإسرائيلي.
استيقظ صحفي آخر كان موجوداً في برج الغفري؛ ليكتشف أن الطويل كان قد غادر؛ انضم له لاحقاً صبح ونواجحة لتغطية استهداف برج حجي. نشر الطويل مقطع فيديو عن الضربة الإسرائيلية الوشيكة على صفحته على فيسبوك، فيما أرسل النواجحة إلى زوجته صورة التقطها لنفسه؛ مرتدياً سترته الواقية من الرصاص، وخوذته.
وفي الساعة 2:25 صباحاً، وأثناء انتظار الصحفيين للغارة على برج حجي، سقط فوقهم صاروخ مباشرة تقريباً؛ ما أودى بحياة الطويل على الفور. وقالت أرملة صبح إنها أُخبرت بأن رجال الإنقاذ وجدوا جثمان زوجها، وكان يرفع سبابته، في إشارة إلى إلقائه الشهادة قبل الموت.
قرأت أرملة النواجحة على فيسبوك خبر وفاته، ليعود الأمل إليها مجدداً بعد أن علمت أنه كان فاقداً للوعي فقط. انتشل رجال الإنقاذ النواجحة من تحت الأنقاض، ونقل إلى مستشفى الشفاء القريب، حيث توفي هناك.
وفي وقت لاحق من اليوم نفسه، أعيدت السترات الواقية من الرصاص إلى "بيت الصحافة”، بعد أن تلطخ لونها الأزرق الفاتح، بدماء جافة بنية اللون. وضع الرواغ واحدة منها على مكتب الاستقبال. نشرت بلستيا العقاد مقطع فيديو للسترات على إنستغرام، وقالت فيه: "سواء ارتديتها أم لا؛ فالقتل مصيرك”.
يقول الرواغ: "إنهم يتوافدون ليتأكدوا من مقتل صديقهم، عليهم أن يكونوا حذرين للغاية، فربما يصيبهم الدور”.
11 تشرين الأول/أكتوبر – 11 قتيلاً
أدت غارة جوية إسرائيلية قريبة إلى قطع الإنترنت عن "بيت الصحافة”؛ فأصبح فارغاً من الصحفيين. لم يتبقَّ سوى جاد الله، والرواغ، وأبو سيف، وزميله يوسف، وفطيمة -وهو مصور يعمل بدوام كامل لبيت الصحافة، لدرجة أنه أصبح فعلياً مساعد جاد الله- والموظف حديثاً محمد الجاجة، وهو استشاري التطوير المؤسسي في بيت الصحافة، ويتحدث الإنجليزية.
تصف مذكرات أبو سيف وضع الصحفيين المُتبقيين في "بيت الصحافة”؛ حين غادروا للاطمئنان على أفراد أسرهم القلقين، ثم عودتهم لمناوبة العمل، لمواصلة تغطية "سوا” للحرب. وفي بعض الأحيان، كانوا ينامون على مراتب متراصة بين المكاتب، محاطة بجدران من أسلاك الكمبيوتر.
قُتل المزيد والمزيد من الصحفيين، الذين تمّ قصفهم في منازلهم أو في الميدان. بدأ الجيش الإسرائيلي بإصدار أوامر شاملة للمدنيين بالتحرك جنوباً أو المخاطرة بتصنيفهم "إرهابيين”. نزح العديد جنوباً، بعيداً عن شمال غزة.
ذهب الرواغ مع النازحين جنوباً، كما فعل يوسف، رئيس تحرير سوا، الذي كان يخشى الإصابة ونقله إلى مستشفيات غزة؛ لكنّ جاد الله اختار البقاء، قائلاً للرواغ: "يجب أن يبقى بيت الصحافة مفتوحاً أمام أيّ صحفي في حاجة إليه”.
6 تشرين الثاني – 39 قتيلاً
بعد مرور شهر تقريباً على الحرب، ضربت غارة منزل مدير المنح، الجاجة وعائلته؛ أدت إلى مقتله بجانب زوجته وابنتيه. ويُظهر فيديو منشور على فيسبوك آثار تدمير المنزل، وتحوّل الدرج الموجود في الردهة إلى منحدر تناثرت عليه قطع خرسانية. (جاء في رد الجيش الإسرائيلي أنه لا يملك معلومات عن تنفيذ غارة جوية في ذلك الموقع)
وبعد انتشال أهل البيت من تحت الأنقاض، وضع رجال الإنقاذ جثة الجاجة مغطاة على الأرض. ويُظهر مقطع فيديو منشور على وسائل التواصل الاجتماعي، جثمان الجاجة مسجى بجانب جثث بناته الصغيرات، وفوقه سترة بيت الصحافة الواقية من الرصاص، وبطاقة الهوية الصحفية.
صادف يوم وفاته اليوم الذي كان مخططاً له أن يلقي فيه محاضرة في مقر المجلس الأوروبي في ستراسبورغ، عن أهمية الصحافة المستقلة. وفي المحاضرة ذاتها، وبصوت بدا مبحوحاً، أعلن أحد المنظمين مصدوماً مقتل الجاجة أمام الحاضرين.
ورغم حالة الذهول، بدا جاد الله صامداً. وقال لبرزق: "سأواصل تأدية عملنا النبيل، كما اعتدت أن أفعل”. ونشر فطيمة على فيسبوك صورة لآخر رسالة أرسلها له الجاجة عبر واتساب، يسأله فيها عن أقرب بائع للخبز.
وبعد أسبوع لقى فطيمة هو الآخر حتفه؛ فعندما كان هو وزوجته مستلقين على السرير، ضرب انفجار سطح المبنى الذي يسكنان فيه، أصابت شظية -ربما ناتجة من تهشم أحد الألواح الشمسية الموجودة على السطح- وجه ابنهما، البالغ من العمر ستة أعوام. حمله فطيمة إلى الخارج متوجهاً به إلى المستشفى؛ قبل أن تصيبهما ضربة أخرى في منتصف الطريق؛ نجا الابن بأعجوبة، لكنّ شظية مزقت ساقه، وفق رواية أرملة فطيمة للصحفيين.
في هذا الوقت، كان الرواغ يكرر على مسامع جاد الله المطالب نفسها: "يا أستاذ بلال، عليك أن تذهب إلى الجنوب، عليك أن تأتي إلى هنا، الجميع يحتاج إليك، عليك أن تكون هنا معنا”. كل من كان تربطه بجاد الله صلة في هذا الوقت، أجمعوا على أنه كان يعارض الإخلاء؛ كان يشعر أن مغادرة "بيت الصحافة” بمثابة التخلي عن صحفيي فلسطين.
"لكنّ جاد الله بدأ يستشعر قرب موته”، وفق ثلاثة أشخاص كانوا يتحدثون معه. أفصح ذات يوم لأبي سيف بهذه الهواجس: "لا أشعر أنني سأنجو من هذه الحرب”. سلّم المدير المالي السابق لـ "بيت الصحافة” محمد سالم مفاتيح المنظمة، وأوصاه بفعل شيئين حال مقتله: دفن جثته، والاعتناء بـ "بيت الصحافة”.
19 تشرين الثاني/ نوفمبر – 51 قتيلاً
وفي منتصف تشرين الثاني/نوفمبر 2023، حث الجيش الإسرائيلي المدنيين على مغادرة مدينة غزة، عبر طريق آمن محدد، أظهرته خريطة منشورة على فيسبوك؛ بدا فيها طريق سريع رئيسي مظلل بالأصفر، ثم إعلان عن "تعليق تكتيكي مؤقت للأنشطة العسكرية” لمدة ست ساعات، في منتصف ذلك اليوم.
وبعد يومين، اتصل جاد الله بشقيقته وأخبرها أنه قرر المغادرة. لقد رتب مع صهره، عبد الكريم، أن يوصله جنوباً بسيارته "الكيا” الرمادية.
أولاً، سيتجهان شرقاً حتى يصلا إلى شارع صلاح الدين؛ وهو الطريق الرئيسي الواصل إلى الجنوب خارج مدينة غزة، الذي حدده الجيش الإسرائيلي طريقاً آمناً. بعدها، سيقودان السيارة مسافة خمسة كيلومترات حتى يصلوا إلى دوار الكويت، ولم يكن يُسمح للسيارات بالمضي أبعد من ذلك، فكان من المفترض على جاد الله أن يسير راجلاً جنوباً مسافة خمسة كيلومترات أخرى، سيقوده الطريق إلى نقطة تفتيش الوادي، وهي المحطة الأخيرة في الطريق إلى مخيمات اللاجئين، حيث تنتظره عائلته.
إلا أنهما توقفا عند شارع صلاح الدين. ما حدث على وجه التحديد، أمر غير واضح تماماً، ويبدو أنه سيظل خفياً. وفق شاهد عيان، انطلقت قذيفة دبابة من الشرق، وسقطت على بعد أمتار قليلة من سيارة كيا.
(سمع شاهد العيان القذيفة، ولكنه لم يرها، غير أنه جزم بالتعرف على الصوت، مشدداً على أنه لم يكن هناك أيّ إطلاق نار في موقع الحادث، ويبدو أن صور سيارة كيا تدعم شهادته؛ فقد قال فني أسلحة سابق في الجيش الأميركي، أن تناثر الثقوب في هيكل السيارة، يماثل الشظايا الناتجة عن انفجار قذيفة دبابة إسرائيلية)
توقفت السيارة بالقرب من المسجد، هرع شاهد العيان وفتح باب السيارة؛ كان جاد الله ما زال يتنفس، على الرغم من وجود الشظايا في مؤخرة رأسه، وفق شاهد العيان، الذي سحب جاد الله خارج السيارة، ونقله إلى "توكتوك”، ملتمساً المساعدة بالتوجه إلى أقرب مستشفى، وهو مستشفى الزيتون، لكنّه كان مغلقاً. بعدها توجه إلى المستشفى المعمداني القريب، ولسوء الحظ لم يكن به إلا طبيب وحيد يعالج 20 مصاباً. اقترح أحد المارة اللجوء إلى عيادة الصحابة، التي كانت لا تزال تستقبل المرضى، لكن بعد وصلوهما بوقت قصير، لفظ جاد الله أنفاسه الأخيرة.
وحتى بعد مرور سبعة أشهر على وفاته، ما زال معظم من عرفوا جاد الله يصفون موته بالأمر العصي على التصديق. "لقد ركضت كالمجنون، وأنا أسأل أين هو؟”، هكذا وصف سالم حاله عندما تلقى نبأ الوفاة، مضيفاً: "كان علي أن أعرف مكانه تنفيذاً لوصيته بدفن الجثمان”. لم يصدق الرواغ هو الآخر نبأ الوفاة؛ اعتقد أن أحد أصدقائه كان يمزح، وعندما أدرك صحة الخبر، انهار في الحال.
ويصف آخرون الحزن الذي خيم جراء فقدانهم معلماً أو صديقاً، من بينهم يوسف الذي قال: "زوجتي هي أكثر من يعرف إلى أي مدى كسرني فقدانه، وكم عانيت جراء هذا”.
كتب أبو سيف: "هرعت وأنا أصعد الدرج، واختليت بنفسي وبكيت؛ كيف يجرؤ الموت على أخذ مثل هذا الرجل! كيف يجرؤ مثل هذا العمل الخسيس، مثل الحرب، على أخذ مثل هذا الرجل الكريم!”.
لطالما كانت العقاد تقتنص الفرص لإظهار إنجازاتها لجاد الله: "انظر كم عدد المتابعين لدي! شاهد هذا العمل الذي أديته! لأنه كان معي في رحلة الصحافة منذ البداية”.
علم يوهانسن بمقتل جاد الله من الأخبار المُنتشرة على وسائل التواصل الاجتماعي. وتحدث عن مقتل جاد الله قائلاً: "خسارة فادحة، خسارة شخصية لمكتب التمثيل النرويجي، ولكنها خسارة أيضاً لا تصدق لفلسطين”.
20 تشرين الثاني/ نوفمبر – 52 قتيلاً
بعد مقتل جاد الله، استمرت آلة الحرب في التهام "بيت الصحافة” وصحفييه الذين كانوا جزءاً منه؛ ففي الأول من كانون الأول/ديسمبر 2023، قتل مصور وكالة الأناضول التركية منتصر الصواف، البالغ من العمر 33 عاماً، وشقيقه مروان، إثر غارة جوية إسرائيلية
وفي 28 كانون الأول/ديسمبر 2023، تعرض منزل أحمد خير الدين للقصف. وقُتل المصور محمد ياغي، البالغ من العمر 29 عاماً، برفقة 36 فرداً من أقاربه، في غارة جوية شُنت على حي الزوايدة في 23 شباط/فبراير 2024.
عاد أبو سيف إلى منزله في الضفة الغربية، بينما غادرت العقاد غزة وتعيش الآن في ملبورن باستراليا، حيث تستمر في النشر الإلكتروني. فيما ترسخت قناعة لدى الرواغ بأن الجيش الإسرائيلي يتعمد استهداف "بيت الصحافة”؛ وعليه يرفض الاحتماء بعائلته، وينام اليوم في خيمة خارج مستشفى الأقصى.
اتجه مدير المكتب سالم إلى مستشفى الصحابة، حيث أكدوا له أن جثمان جاد الله قد سُلّم، ودفن في مقابر مستوصف الشيخ رضوان. بعدها، انتقل مع زوجته وأولاده إلى "بيت الصحافة” المهجور؛ فوجد أن الانفجارات القريبة من "بيت الصحافة”، قد أدت إلى انهيار أسقفه، وتناثر أجهزة الكمبيوتر المحمولة والكاميرات في كل مكان. كما اكتسى المكان بطبقات من الغبار.
قال سالم إنه بنهاية كانون الثاني/يناير 2024، بدأت الدبابات والجنود المتمركزون في حي الرمال بإطلاق الرصاص والقذائف على المبنى، "مئة في المئة كانوا يستهدفون بيت الصحافة”.
لمدة ثلاثة أيام، سكن سالم وعائلته غرفة في الجانب الخلفي من مبنى "بيت الصحافة”. (تظهر صور الأقمار الصناعية مسار الدبابات على الطرق المجاورة للمبنى. ويمكن رؤية ثلاثة تجمعات للدبابات المدرعة الإسرائيلية، على بعد 500 متر من "بيت الصحافة”. لكن لا يمكن استقاء أيّ معلومات تفصيلية، من خلال هذه الصور، عن العمليات التي تقوم بها الآليات العسكرية المتمركزة هناك.)
وفي صباح اليوم الرابع، لم يرَ سالم أيّ أثر الدبابات، يضيف سالم قائلاً: "كان الوضع هادئاً، لم يكن هناك إطلاق نار، أو أيّ شيء على الإطلاق، عندها حزمنا حقائبنا، وأغلقت الأبواب، ثمّ رحلنا”.
10 شباط/فبراير – 91 قتيلاً
بعد مرور أكثر من أسبوع على فراره وعائلته من "بيت الصحافة”، وفي السادسة من صباح يوم ما، استقل سالم دراجة وعاد إلى مقر "بيت الصحافة”؛ لكنّه وجد المبنى مُهدَّماً بالكامل، لم تتبقَّ منه سوى كومة من الأنقاض. ومن بين شقوق الحطام المتناثر، انبثقت شجرة بلا أوراق. أخرج سالم هاتفه وشرع في التصوير صامتاً، تسلق فوق الحطام، محاولاً إدراك حجم الدمار الذي حدث.
لم يجد سالم أيّاً من الكاميرات أو أجهزة الكمبيوتر المحمولة أو الأجهزة اللوحية بين الحطام؛ مثلها مثل أشجار الزيتون، وأجهزة الراديو القديمة، وكل ما يمكن أن يجسد رؤية جاد الله. الكل أصبح تحت الأنقاض مدفوناً.
-daraj.media