المقدمة
حقق القمع الرقمي انتشاراً غير مسبوق في السنوات الأخيرة.[1] لقد أدى انتشار تقنيات المراقبة جنباً إلى جنب مع التقدم في وسائل الاتصالات إلى تمكين الحكومات السلطوية من توسيع نطاق مراقبتها وتضييقها على حرية التعبير لتشمل الفضاءات الرقمية.
بالمقارنة مع أساليب الاستخبارات التقليدية، فإن استخدام تقنيات المراقبة ووسائل التواصل الاجتماعي للتجسس على المدافعين عن حقوق الإنسان يتطلب موارداً وتكلفة أقل، مما ساعد بشكلٍ كبير في توسيع نطاق القمع الرقمي.
[2] لذلك، أصبح تتبع المدافعين عن حقوق الإنسان أكثر شيوعاً من أي وقت مضى. في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، يعد اختراق المدافعين عن حقوق الإنسان أمراً شائعاً ومنتشراً علي نحوٍ خاص.[3]
كان أحمد منصور، وهو ناشط إماراتي في مجال حقوق الإنسان وعضو في المجلس الاستشاري لمركز الخليج لحقوق الإنسان ، واحداً من أوائل المستهدفين بواسطة برنامج التجسس بيغاسوس، الذي استخدمته حكومة الإمارات العربية المتحدة لاختراق أجهزته قبل اعتقاله بتاريخ 20 مارس/آذار 2017.[4] مازال أحمد منصور رهن الحبس الانفرادي في سجن الصدر بأبوظبي، حيث يقضي حكماً بالسجن لمدة ٢٥ عاماً بينما يعاني من ظروف صحية مزمنة ويُحرم من حقوقه الأساسية.[5]
بعيداً عن المخاطر الجسدية، مثل إمكانية الاعتقال والسجن، فإن القمع الرقمي له عواقب أخري خطيرة. لقد وثقت أبحاث سابقة كيف يمكن أن يؤدي القمع الرقمي إلى تآكل الروابط الاجتماعية بين الناشطين والمحيطين بهم.
[6] على سبيل المثال، قد يشعر المدافعون عن حقوق الإنسان بأنهم مضطرون لتقليل التواصل مع عائلاتهم خوفاً من الانتقام ضدهم، حيث غالباً ما تستهدف الحكومات الاستبدادية الأقارب كوسيلة للضغط على المدافعين.
علاوة على ذلك، قد يشعر المدافعون بالحاجة إلى البقاء حذرين بشأن الأشخاص الذين يتواصلون معهم، حيث يلجأ عملاء الحكومة في كثيرٍ من الأحيان إلى استخدام أفراد من دوائر المدافعين الاجتماعية للدخول إلى أجهزتهم وحساباتهم على مواقع التواصل الاجتماعي.
[7] تعكس هذه الأمثلة العزلة الذاتية التي قد يضطر المدافعون عن حقوق الإنسان إلى فرضها على أنفسهم، مما يشير إلى التأثيرات النفسية والاجتماعية الناجمة عن القمع الرقمي. ومع ذلك، فإن الأبحاث المتعلقة بالعواقب النفسية لهذه الظاهرة لا تزال محدودة، وهو أمر ضروري لفهم الأضرار الكاملة للقمع الرقمي وتعزيز الدعوات لمواجهته.
يصف هذا التقرير الموجز التأثيرات النفسية والعاطفية للقمع الرقمي، مستنداً إلى أعمال بحثية ومُدمَجاً بتحليلاتٍ مستخلصة من محادثات غير رسمية مع مدافعين عن حقوق الإنسان في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا. تقدم الأقسام التالية لمحة عامة عن ممارسات القمع الرقمي وكيفية تنفيذها، يتبعها توثيق للآثار النفسية العديدة المترتبة عليها. ُيختتم التقرير بتقديم توصيات لمواجهة القمع الرقمي.
ممارسات القمع الرقمي
يشمل القمع الرقمي مجموعة من التكتيكات التي تستخدمها الحكومات لمراقبة وترهيب وإسكات المدافعين عن حقوق الإنسان. تتمثل هذه التكتيكات في المراقبة والمضايقات عبر الإنترنت. لتتبع المدافعين عن حقوق الإنسان وجمع المعلومات عنهم، يستخدم عملاء الحكومة تقنيات التجسس وهجمات التصيد الاحتيالي. توفر تقنيات التجسس وصولاً كاملاً إلى الأجهزة المستهدفة، بما في ذلك الكاميرات والميكروفونات، مما يمنح رؤية شاملة لحياة المدافعين عن حقوق الإنسان الخاصة دون أن يدركوا ذلك.
بالمثل، تتضمن محاولات التصيد الاحتيالي، إرسال روابط التي عند الضغط عليها، يمكن أن تُمَكن المتصيدين الدخول إلى حسابات التواصل الاجتماعي أو أجهزة الحاسوب المستهدفة والحصول على معلومات حساسة. غالباً ما يتم تنظيم هذه الهجمات من خلال دعوات لحضور ندوات أو مقابلات تُرسل عبر البريد الإلكتروني أو حسابات وسائل التواصل الاجتماعي[8].
باستخدام المعلومات التي تُجمع من خلال المراقبة، تنخرط الحكومات السلطوية غالباً في المضايقات عبر الإنترنت، من خلال إرسال تهديدات إلى المستهدفين، أو نشر معلومات كاذبة عنهم لتقويض مصداقيتهم، أو إطلاق حملات تشويه، أو تنسيق هجمات من قبل المتصيدين ضد محتواهم على وسائل التواصل الاجتماعي باستخدام حسابات مزيفة. بالإضافة إلى ذلك، يمكنهم نشر تفاصيل خاصة وحميمة عن المستهدفين، وهو ما يُعرف بالتشهير[9]. إن هذه الانتهاكات والتهديدات تخلق ضغوطاً تؤدي غالباً إلى تأثيراتٍ نفسية كبيرة على الصحة العقلية والنفسية لناشطي حقوق الإنسان.
الآثار النفسية
يُبِلغُ المدافعون عن حقوق الإنسان عن ردود نفسية متنوعة تجاه القمع الرقمي، وتتراوح هذه الردود بين الشعور بعدم الأمان، القلق، ومن الارتياب إلى التوتر النفسي والإرهاق.[10] على سبيل المثال، وصف أحد المشاركين في دراسة حديثة، الاستهداف عبر الإنترنت بأنه ‘حرب عاطفية ونفسية’.
[11] بشكلٍ خاص، يخلق القمع الرقمي مشاعر عدم اليقين بشأن مدى المراقبة والاستخدام المحتمل للمعلومات، مما يجعل أولئك الذين يتعرضون للمراقبة يشعرون بالعجز.[12]
في محادثة مع مركز الخليج لحقوق الإنسان، تصف إحدى مدافعات حقوق الإنسان من منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، الألم النفسي العميق الذي شعرت به عندما اكتشفت أن أجهزتها قد تم اختراقها منذ أكثر من عام، مما منح المراقبين تحكماً كاملاً بكاميراتها والاطلاع على تفاصيلها الخاصة.
إن فقدانها لحقها في الخصوصية جعلها تعيش في خوفٍ من احتمال تسريب صورها الخاصة، مما أدي لشعورها بعدم الأمان، خاصة وأنها لم تتلق دعماً من عائلتها. زاد إفلات المتسببين باختراق أجهزتها من العقاب وتلقيهم الدعم من حكومة بلادها من شعورها بالعجز وتقويض إيمانها بتحقيق العدالة. بسبب صدمتها من التجربة ومن عدم توفر حماية كافية ضد هذا النوع من الهجمات، قررت المدافعة تقليل انخراطها في العمل الحقوقي للتخفيف من نقاط الضعف التي قد تنشأ عن ذلك.
أبلغت مدافعة أخرى عن حقوق الإنسان أيضاً عن ضغوط نفسية واجهتها جراء اختراق أجهزتها. ومع ذلك، وعلى عكس الحالة السابقة، لم يُعطِّل ذلك من نشاطها الحقوقي.
كان دعم عائلتها أمراً حاسماً في مساعدتها على التعامل مع هذه الضغوطات، مما سمح لها بمواصلة نشاطها دون انقطاع. يُعتبر هذا العنصر من الدعم مهماً للنساء المنخرطات في النشاط في سياقات معادية لهن، حيث يوفر لهن إحساساً بالدعم والأمان ضد الهجمات التي تهدف إلى تشويه سمعتهن وعزلهن عن عائلاتهن التي قد تشعر بالعار من نشاطهن.
الآثار الجندرية
تُذكّرنا هذه الحالات بالمخاطر المتزايدة التي تواجهها النساء العاملات في مجال حقوق الإنسان بسبب عملهن، وكذلك الطابع الجندري للقمع الرقمي عندما يستهدف النساء. تركز الهجمات التي تتعرض لها النساء في الغالب على هويتهن كنساء، وعلى جنسهن، وعلى أجسادهن بهدف إلحاق العار بهن وتلطيخ سمعتهن.[13]
على سبيل المثال، أفادت إحدى الناشطات في دراسةٍ، أن الهجمات ضد النساء غالباً ما تتضمن عناصر جنسية، مثل الاتهامات بوجود علاقة غرامية أو الدخول في علاقات خارج إطار الزواج.
بالنسبة للنساء اللواتي ينتمين إلى مناطق تترسخ فيها المعايير الأبوية حيث يتم التطبيع مع العنف الجندري، يصبح تهديد المراقبة عبر الإنترنت كابوساً مرعباً. يمكن استخدام الصور الخاصة والتفاصيل الحميمة لنشرها علناً بهدف إثارة تهديدات بالعنف الجنسي، بما في ذلك التحرش والاغتصاب.
[14] إن الأكثر خطورة هو، أن هذه الصور قد تُستخدم لتزوير صور الناشطات ووضعهم في مواقف مخلة ونشرها كمحتوى جنسي. لقد حذر مركز الخليج لحقوق الإنسان سابقاً من مخاطر تكنولوجيا الزيف العميق وإمكانية إساءة استخدامها ضد المدافعات عن حقوق الإنسان في المنطقة.[15] بسبب هذه التكاليف، قد تصاب بعض الناشطات بحالات من الاكتئاب وتراودهن أفكار انتحارية، وخاصة في ظل ندرة الدعم النفسي وإلقاء عائلاتهن اللوم عليهن نتيجة هذه الهجمات.[16]
الخاتمة والتوصيات
يُبرز هذا الملخص التأثير العميق للقمع الرقمي على الصحة النفسية لناشطي حقوق الإنسان، والذي يؤدي إلى مشكلات نفسية مثل الاكتئاب، القلق، والعزلة الاجتماعية. تتأثر النساء بشكل خاص بالقمع الرقمي، حيث تأخذ الهجمات ضدهن طابعاً جنسياً. تتحمل منظمات المجتمع المدني وشركات التكنولوجيا مسؤولية التخفيف من هذه الآثار من خلال دعم الناشطين المتضررين في مختلف المجالات. بناءً على ذلك، تشمل التوصيات في هذا السياق ما يلي:
بالنسبة للمجتمع المدني
تقديم الدعم النفسي لضحايا القمع الرقمي. بينما تُعد المساعدة التقنية والجنائية ضرورية للكشف عن اختراق الأجهزة وتطبيق ممارسات الأمان الرقمي، لا ينبغي أن تكون الشكل الوحيد للدعم المتوقع في حالات الطوارئ الرقمية.
كما يوضح هذا الملخص، غالباً ما يواجه ضحايا المراقبة عبر الإنترنت آثاراً نفسية خطيرة، مثل القلق والاكتئاب، نتيجة الهجمات الرقمية.
ينبغي على مجموعات المجتمع المدني السعي إلى توفير برامج متخصصة لمواجهة هذه التحديات، بما في ذلك تقديم المشورة وتوفير دعم جماعي. يجب ألا تقع مسؤولية تقديم هذا الدعم على عاتق العاملين في المجتمع المدني من خلال العلاقات الشخصية، بل يجب ضمان ذلك عبر خدمات صحة نفسية رسمية.
ضمان الحصول علي دعم القانوني. يمكن أن يُساعد تحقيق العدالة الأفراد المتضررين في استعادة شعورهم بالأمان، وهو أمر ضروري لإعادة تأهيلهم. كما يُعد وسيلة مهمة للحد من انتشار أدوات المراقبة. ينبغي على منظمات المجتمع المدني تقديم الإرشاد القانوني لمن يرغبون في تحقيق العدالة، وتكوين فرق من المحامين المدربين على رفع مثل هذه القضايا أمام القضاء.
الاستثمار في الأبحاث لاستكشاف وتأسيس سبل للمسائلة. يعد توثيق الانتهاكات وحالات القمع الرقمي أمراً ضرورياً للاستفادة من البيانات في جهود المناصرة. بالرغم من ذلك، فإن الأهم هو خلق فرص قانونية جديدة لملاحقة المسؤولين. على سبيل المثال، يمكن أن تكون إحدى هذه الفرص، تطبيق القانون الإنساني الدولي والقانون الجنائي الدولي لمقاضاة الجهات التكنولوجية التي تبيع تقنيات المراقبة للحكومات الاستبدادية.
بالنسبة لشركات التكنولوجيا
لا ينبغي أن يمر القمع الرقمي دون استجابة. تدرك شركات وسائل التواصل الاجتماعي حجم استخدام منصاتها في ممارسة القمع الرقمي. يجب عليها الاستثمار في أدوات وخاصيات تضمن حماية وسلامة المستخدمين. كما يجب أن تعطي الأولوية للبلاغات المتعلقة بالهجمات الرقمية، خاصة تلك التي يقدمها الضحايا.
التعاون مع مجموعات المجتمع المدني. يجب فتح قنوات تواصل مع المنظمات غير الحكومية المحلية وجهات الإبلاغ عن الانتهاكات الإلكترونية، التي تمتلك المعرفة بشأن العواقب النفسية التي قد يسببها القمع والتحرش الرقمي.
مصدر الصورة:
Udey Ismail
-gc4hr