ليلى سويف مضربة كلياً عن الطعام، احتجاجاً على عدم إطلاق السلطات المصرية سراح ابنها علاء عبد الفتاح على رغم انتهاء مدة حبسه، وتعيش منذ 29 أيلول/ سبتمبر 2024 على المياه ومحاليل الجفاف، مُتهمةً السلطات البريطانية بالتواطؤ مع السلطات المصرية لإبقاء علاء في السجن.
أسأل صديقة أن أذهب معها إلى بيت ليلى، لأنني أخجل من الذهاب بمفردي، تضحك صديقتي وتخبرني بأنه بيت الأمة.
يبدأ المشهد الثاني في بيت ليلى وهي محاطة بأصدقائها وأقاربها، جلسة يحيطها الحب والدفء والتحدث في كل أمور الحياة، تحكي لهم عن هوسها بالرياضيات، وعزمها على دراسة الرياضيات البحتة منذ أن كانت في الصف الخامس الابتدائي، على خلاف كل زملائها الذين كانوا يرغبون في دراسة الطب أو الهندسة.
ليلى سويف أستاذة الرياضيات في كلية العلوم التابعة لجامعة القاهرة.
تبتسم ليلى كثيراً على رغم التعب والحزن الواضحين على ملامح وجهها، وقد دونت صديقتها الدكتورة عايدة قياسات الضغط والسكر اليومية الخاصة بها على ورقة، تحمل شعاراً بعنوان "الحرية لعلاء عبد الفتاح”.
ليلى مضربة كلياً عن الطعام، احتجاجاً على عدم إطلاق السلطات المصرية سراح ابنها علاء عبد الفتاح على رغم انتهاء مدة حبسه، وتعيش منذ 29 أيلول/ سبتمبر 2024 على المياه ومحاليل الجفاف.
لم أصادف أحداً في حياتي يتحدث عن الرياضيات بهذا الشغف، ربما تعلمت ليلى من الرياضيات المنطق، لكن ما المنطق في ما يحدث في مصر، وأن يظل ابنها في سجن مستمر تقريباً طوال فترة حكم السيسي؟.
أمضى علاء عبد الفتاح مدة خمس سنوات كاملة في القضية رقم 1228 لسنة 2021 جنح أمن دولة طوارئ، التي حُكم فيها عليه وعلى المحامي والمدافع عن حقوق الإنسان محمد الباقر والمدون محمد رضوان (أوكسجين).
ترفض السلطات المصرية احتساب عامي السجن الاحتياطي التي أمضاها علاء وأوكسجين بالفعل في السجن، من مدة تنفيذ الحكم في القضية رقم 1356 لسنة 2019، لتفاجَأ ليلى بأن ابنها عليه أن يمضي عامين إضافيين، في مخالفة لنص المادة 484 من قانون الإجراءات الجنائية، التي تنص على حسم فترة الحبس الاحتياطي من مدة الحكم في حال وجود قضايا متعددة، وذلك تبعاً للمبادرة المصرية للحقوق الشخصية.
قررت ليلى الدخول في إضراب كامل عن الطعام بدايةً من 29 أيلول/ سبتمبر الماضي، اليوم الذي انتهت فيه مدة حكم علاء قانونياً، لكن السلطات المصرية كان لها رأي آخر، بأن مدة حبس علاء تنتهي في 3 كانون الثاني/ يناير 2027، بعد خمس سنوات من التصديق على الحكم، وليس من تاريخ القبض عليه، ليلى تعتبر ابنها المزدوج الجنسية مخطوفاً ومحتجزاً بشكل غير قانوني، وتحمّل السلطات البريطانية المسؤولية المشتركة مع السلطات المصرية عن حماية علاء وسلامته.
"دا إنقاذ وطني”
في عهد ما بعد "يناير” كنت أراها تسير بهدوء في التظاهرات، أخبر أمي غاضبةً عندما تمنعني من النزول "في الثورة” بأن ليلى سويف تصطحب معها ابنتها الصغيرة في التظاهرات.
أراها في تظاهرات دعم غزة القليلة بعد "طوفان الأقصى” تجلس على سلالم نقابة الصحافة. وهي تحمل على عاتقها عبء السفر إلى وادي النطرون، حيث يمضي ابنها سنوات من عمره لرغبة الديكتاتور في التنكيل بكل من يذكره بـ”يناير”.
حوّل النظام المصري قضية علاء وناشطين آخرين مثل المعتقل محمد عادل إلى سجن مزمن بلا نهاية، كأنه عقاب أبدي على ارتكاب فعلة "يناير”. يعترف الرئيس عبد الفتاح السيسي علانيةً بأن هناك من سيقبعون في السجن لأن "دا إنقاذ وطني”.
وعلى الرغم مما فقده آلاف المعتقلين في السجون، واحتياجهم إلى التعافي الطويل إذا ما فُتحت أبواب سجونهم يوماً ما، لكن النظام يخاف من الأشباح كما تقول ليلى.
"والسُلطة خدت ولدي”
حوّلت أمهات ساحة مايو في الأرجنتين، وأمهات مفقودي الحرب الأهلية اللبنانية الأمومة إلى دور سياسي، أخذن على عاتقهن البحث عن أبنائهن، 30 ألف شخص فُقدوا في الأرجنتين في فترة الحكم العسكري ما بين عامي 1976 و1983، و17 ألف شخص فُقدوا في الحرب الأهلية اللبنانية، في الفترة من 1975 حتى 1990، هؤلاء الأمهات العاديات (كم أكره هذه الكلمة) لكن أقصد اللواتي لم يشتغلن بالسياسة من قبل، أو يمارسن التظاهر أو ينتمين إلى التنظيمات السياسية بالمعني الضيق للسياسة. اخترعنا أدوات نضالية وممارسة الاحتجاجات والتظاهرات، كانت الأمهات الأرجنتينيات يتظاهرن أسبوعياً أمام مبنى الأمم المتحدة في بوينس آيرس، وهن يرتدين أغطية رأس بيضاء، حتى صنعن حركة "أمهات مايو” التاريخية الملهمة.
كونت الأمهات اللبنانيات لجنة للمفقودين والمخفيين قسرياً في الحرب الأهلية اللبنانية، لمساءلة الدولة عن أحبائهم، عملن معارض، شاركن في أفلام وثائقية، وفي ورش كتابة لتوثيق روايتهن عن أبنائهن، ووقفن بوجه الدولة لينتزعن الحق في معرفة مصير أبنائهن، حتى صدر قانون في عام 2018 يعطي أهالي المفقودين الحق في معرفة الحقيقة.
على مدار السنوات العشر الماضية، كانت الأمهات والزوجات هن الأشجع في المطالبة بحقوق أبنائهن وأزواجهن وآبائهن المعتقلين والمخفيين، هذا ما فرضه النظام، وفرضته الأمومة والبنوة والعاطفة، ربما تمنّت هؤلاء النساء ألا يتكبّدن هذه المصاعب والمشقات، من إعداد الطعام وشراء مستلزمات المسجون وملابسه، وقصّاصات الأظافر البلاستيكية لأن المعادن ممنوعة في السجن بالطبع، والراديو ذي الموجة الواحدة، و”خراطيش” السجائر (عملة السجن) إلى الذهاب والإياب إلى السجون البعيدة عن قلب القاهرة في ظل ظروف اقتصادية طاحنة تمر بها مصر.
ربما يختلف مدى اهتمام الأمهات الأرجنتينيات واللبنانيات والمصريات السياسي، وانشغالهن بالتنظيمات أو الحراكات الاجتماعية، لكن قد لا نختلف أنهن يمارسن نضالاً من نوع آخر. فهن لم يستطعن نسيان هذه القضايا السياسية أو التخلي عنها لأنهن أمهات بالضرورة.
الأمومة هي التي جعلت قضايا الاختفاء القسري ومعتقلي الرأي حية، فمن يحق له مساءلة السلطات أكثر من أمهات فقدن أبناءهن في غياهب السجون؟
الصورة الأولى التي تقبع لها في مخيلتي هي صورتها الشهيرة وهي محاطة بأفراد الأمن المركزي، فلها تاريخ طويل من النضال والدفاع عن حقوق الإنسان، والدفاع عن الطلبة واستقلال الجامعات المصرية. تجيب ليلى في معرض حديث لها عن سؤال كيف تتحمل كل هذه المشقة، بأنها أم.
حاربت ليلى وابنتاها منى وسناء خلال سنوات سجن علاء الطويلة من أجل حريته، من أجل أن يخرج للتريض، من أجل أن يرى الشمس، من أجل توصيل خطاب يخبرهن بأحواله في ظل جائحة كورونا، من أجل إدخال الكتب، وبعض الصور الخاصة بعلاء، الذي لا يستطعن التحدث معه سوى عبر سماعة من خلف الكابينة الزجاجية، وهي طريقة الزيارة في سجن وادي النطرون المعروف بمركز التأهيل والإصلاح.
تمتد الحرب التي تخوضها الأم والعائلة الى التفاوض على إدخال بعض التوابل (لأن أكل السجن بلا طعم)، تطبع له الأم صورة جديدة نشرتها وكالة "ناسا” لاكتشاف فلكي جديد، فعلاء يشارك والدته شغفها بالعلوم، هو مبرمج بالأساس، اهتم طويلاً بنشر المعرفة باستخدام الإنترنت، لكن علاء ابتعد عن الإنترنت لمدة عشر سنوات كاملة.
تحارب الأم هذه المرة بجسدها، وقد استلهم الناشطون الإضراب عن الطعام بهذه الطريقة من الأسرى الفلسطينيين في سجون الاحتلال. تقول صفحة "الحرية لعلاء” على "فيسبوك” إن ليلى مستمرة في التدريس والذهاب إلى علاء في سجن وادي النطرون (الذى يبعد عن القاهرة نحو 70 كيلومتراً) لزيارته طالما يتحمل جسدها ذلك.
-Daraj