من راقب “الشاشات” مات هماً




أثار الاعتداء على النويري والبسطة الذعر بين الناس، فقبله لم تكن بيروت وأحياؤها قد شهدت مجزرة بهذه الفظاعة، وبقيت برغم الاستهدافات، التي حرصت اسرائيل على وصفها بالـ”دقيقة”، ملجأً للنازحين يحتمون بها لظنهم أنهم سيكونون آمنين في أفيائها. الذعر تجلّى صرخات وتصريحات على شاشات التلفزيون، ومنشورات على وسائل التواصل الاجتماعي.

صادفت، أثناء تصفحي "فايسبوك” للاطمئنان على الأصدقاء، منشوراً يكاد يُسمع صراخ كاتبته "ما بقى تتخبوا بين الناس…”، هممت بكتابة تعليق على المنشور، لأحذّر صاحبته من احتمال تعرّضها لهجوم كاسح، ممن يعتقدون أنهم يقومون بـ”واجب جهادي” عبر التصدي إلكترونياً لكل من تسوّل له نفسه أن يصدّق بأن "شخصية” حزبية قد استُهدفت في إحدى الغارات. وفي حالة النويري والبسطة كان الاسم المتداول هو وفيق صفا مسؤول التنسيق والارتباط في "حزب الله”. 

لم أكتب التعليق إذ رأيت أن "إسنادي” لها لن يرد عنها الهجوم، إنما سيضعني مثلها في دائرة الاستهداف، وراقبت بصمت توالي الردود التي اعتُبر أنها "تلطفت” بها، على الأغلب بسبب المعرفة الشخصية التي تربطها بالمعلقين والاحترام، الذي يبدو أنهم يكنونه لها، فاقتصرت على "تحذيرها” من تبني سردية العدو وخطابه. 

الأمر نفسه تكرر مع من سأل عمن استهدفت الغارات في الوردانية وبرجا وقرى كسروان، فكان "المجاهدون” الألكترونيون لهم بالمرصاد ليسكتوهم، إذ إن الرواية الوحيدة المقبول تداولها هو أن "العدو يستهدف الآمنين من عجزة ونساء وأطفال ويدّعي زوراً أنه يلاحق شخصيات قيادية”، لكن ما لا يعرفه "المجاهدون” هو أن أحداً لا يبرّئ اسرائيل من استهداف المدنيين الآمنين، أو على الأقل من اعتبارهم أضراراً جانبية، لكن من يعتقد أن المستهدف الأساسي هو شخصية محددة يحاول باعتقاده هذا أن يطمئن القلق الذي سيعتريه إذا ظن أن القصف عشوائي سيكون هو وأسرته ضحاياه التالين، لذا فإن إيجاد نمط للاستهدافات يمنحه شعوراً، ولو وهمياً، بأن بإمكانه اجتنابها. 

من راقب الناس مات هماً، فكيف إذا راقبهم عبر وسائل التواصل الاجتماعي، مع ما لهذه الأخيرة من قدرة فائقة على تحفيز شهيةٍ على التواصل الافتراضي، أكبر من تلك التي تحفّزها التفاعلات الوجاهية. ولا يقتصر الأمر على الكم إنما يمتد ليغير نوع التواصل، فنراه أكثر "جرأة”، وربما يعود ذلك إلى الأمان الذي يشعر به كثيرون ممن يختبئون خلف شاشاتهم، ويوارون هوياتهم الحقيقية خلف صور هوامية يرسمونها عن أنفسهم ويسوقونها في العالم الافتراضي، فيتحرر تعبيرهم عن آرائهم من الضوابط الكثيرة التي تقيّده في الواقع. 

وسائل التواصل الاجتماعي و”إزاحة العدوانية”
هكذا وجدتُني محاصرة بفيض من المشارَكات المتفلتة من عقالها، كيفما أدرت وجهي وأينما تلفتّ، بدءاً ب”فايسبوك”، مروراً ب”واتساب” وصولاً الى "إنستاغرام” أو حتى "إكس”، لكن ما باليد حيلة ولا مفر من متابعة هذه التطبيقات، إذ لم يبقَ لي من نافذة غيرها أطلّ منها على العالم الخارجي وعلى ما يجري فيه، لكي أفكّ العزلة، التي فرضتها على نفسي عندما أجبرتني ضرورات الأمان على الإقامة في بيتي "منفايَ الطوعي”. 

المشكلة في العديد من تلك المشاركات هي أنها تطلق العنان للغضب والحقد ولغرائز التدمير والانتقام، والأدهى أنها لا توجه إلى المعتدي، أو لا يُشفي غليلها ما توجهه إليه من عدوانية لفظية متمثلة بالشتائم والسباب، وإنما تقوم بإزاحة تلك العدوانية من موضوعها الأصلي الى موضوع بديل يبدو الاشتباك معه ممكناً أو أقل كلفة، فتصبُّها على كل من يتجرأ ويعترض طريقها، ويرتكب معصية التمايز عنها أو الاختلاف معها.

أما من يُضبط متلبساً بالتصوير فتهمة العمالة جاهزة لتُلصق به، وهذا أمر لم يقتصر على الفضاء الافتراضي بل تجسد واقعاً، إذ تم تناقل فيديوات تُظهر تعرّض شبّان لضرب مبرّح وشتائم وإهانات واتهامات بالعمالة، ولم يُعرف مصير هؤلاء وما إذا تم تسليمهم الى السلطات لتحقّق معهم. اللافت كان النقاشات التي دارت تعليقاً على هذه الفيديوات في مجموعات "واتساب”، التي من المفترض أنها محصورة بين عدد من الأشخاص يربطهم رابط ما، سواء أسري أو مهني أو اجتماعي. 

في إحدى تلك المجموعات سأل أحدهم كيف عرفوا أن من يُجرجر في الشارع عميل فجاءه الجواب البديهي الحاسم، أنهم وجدوا في هاتفه صوراً للمنطقة وللمكان المستهدف. سكت السائل، على الأغلب لأنه اقتنع بالجواب واكتفى بالدليل.

 حدسي هذا أكّده تعليق الشخص نفسه على الفيديو التالي الذي تمت مشاركته على المجموعة نفسها. الفيديو صور مجموعة من الرجال من الخلف، وهم يتحلقون حول شابٍ مدمى ويتناوبون على ضربه، وهم يستنكرون وجود صور على هاتفه. هذه المرة ظهر الدليل على العمالة في الفيديو، فلم يعد هنالك حاجة للسؤال عنه، فكان التعليق البديهي الحاسم أنه يجب أن يُعدم! 

وأنا انتظر أن ينطق أحد فيقول إنه من الأفضل تسليمه للسلطات، توالت التعليقات التي تشجع على تصفية "العميل” في الحال، دعمها تعليق يؤكد على ضرورة توثيق عملية الإعدام، وإرسال الفيديو إلى أفيخاي أدرعي. أما التعليق الذي استحق أن يُتوج ملكاً، فجاء يستنكر إعدامه لأن ذلك سيريحه من عذاب مستحق، واقترح أن يتم تعذيبه مطولاً وتصوير عملية التعذيب ليتّعظ غيره، ثم إرسال الفيديو لمشغليه. 

لم أعلّق، لا لأنني اقتنعت بـ”الأدلة” أو بكون الإعدام عقوبة مستحقة لعميل، وإنما لأنني اقتنعت بعدم جدوى النقاش وعبثيته، في غياب أي مشترك ننطلق منه ونبني عليه!

أزمة "المحاكمات الشعبية”
بعد نقاش الإعدام للاشتباه بالعمالة، لم أستغرب ما رأيته على "فايسبوك” من صور لأشخاص مربوطين على أعمدة في أماكن متفرقة، محمّلين لافتات تقول إنهم لصوص. لم أدرِ إن تركوا على هذه الحالة ليتعرضوا للغارات أو لمخاطر أخرى منها أن تلتهمهم، أحياء، الكلاب الضالة الجائعة. وهي في كل الأحوال، حتى لو ثبتت عليهم تهم السرقة، عقوبات وحشية من غير المقبول أن توقع على إنسان مهما بلغت خطورة جريمته، فما بالكم لو أُنزلت به دون محاكمة أو بمحاكمة لم تؤمن فيها للمتهم فرص الدفاع، لأن من حاكمه اكتفى بالشبهة وهو أصلاً غير مؤهل لينصب نفسه قاضياً. 

وحتى لو تم ضبط هؤلاء بالجرم المشهود، وعلى الرغم من أن العقوبات قد تشدد في حالات الطوارئ إن تم إعلانها، تظل هذه الطريقة في التعامل معهم وحشية، فماذا لو كان هؤلاء مظلومين؟ ماذا لو كانوا جائعين؟ ماذا لو كانت هذه فعلاً بيوتهم كما ادّعى أحد هؤلاء الشبان، الذي ظهر في فيديوين صُوّرا على مرحلتين. وقد شكا في أحدهما من منعه من الدخول إلى بنايته السكنية، واتهامه بأنه لص من قبل  شباب "الحماية” وتعليقه على عامود. الشاب الذي ختم كلامه بطلب إخراج "المستودعات” من تحت بيته، ظهر في الفيديو الثاني وهو يتعرّض مع عددٍ من الشبان للضرب والإسكات… لا نعلم من هو وما مصيره وإن كان صادقاً أم كاذباً، ولن نعلم ما دام التحقيق يجري من قبل مجهولين وتتبع فيه هذه الطريقة.

مرة جديدة لم أعلّق، وكيف أفعل وقد قرأت ردوداً بالجملة على إحدى المطالبات بتسليم هؤلاء الشبان إلى السلطات، تكاد تخوّنها وفي أحسن الأحوال تسخر منها ومن "ثقتها” بالدولة ومؤسساتها، من قبل من يعتبرون أنهم يمثّلون الشرعية، بينما يشككون بشرعية مؤسسات الدولة وبأهليتها لاحتكارها الحق بالتحقيق والحكم وتوقيع العقاب. 

بعد هؤلاء، اكتمل المشهد بفيديو يظهر رابعة الزيات مع مجموعة من الشباب، وهم يخلعون باب أحد المحال في وسط بيروت. رابعة التي بدت متحمسة أكثر من الشبان ادّعت أن الدولة، مشيرة إلى رجل أمن، هي التي سمحت بفتح المحل، وأضافت أن كل المحال المقفلة يجب أن تُفتح. لكنها في اليوم التالي ظهرت في مقابلة لتشرح ما جرى لمن يريد أن يسمع، فقالت إنها تحت سقف القانون وإنها لم تحرّض ولن تحرّض أبداً على التعدّي على الممتلكات الخاصة، وإن المحل الذي كانت "تؤم” فاتحيه بالقوة هو لشركة أعطت موافقتها على استخدامه كمركز صحي. 

قبل رابعة قام محام شهير، وغيره كثيرون، بالدعوة إلى احتلال شقق سوليدير ومحلاتها، وقد شهدنا اقتحام مبنى على الأقل من قبل النازحين قبل أن تُخرجهم منه لاحقاً القوى الأمنية.

قد نتفهم المشاعر الجياشة التي سببت كل هذه التصرفات، وربما نشعر مثلهم بالغضب العارم ممن يثبت تعامله وإعطاؤه العدو إحداثيات تساعده على قصف أهل بلده، ربما نشعر بالإشمئزاز ممن يستغل هذه الأحداث ليسرق بيوت النازحين، وبالخيبة ممن يُقفل شققاً أو محلات فارغة في وجه من يفترشون الأرصفة وينامون في العراء، لكن ذلك لا يبرر أبداً التصرفات الميليشياوية والمحاكمات الميدانية والفتوات والاستقواء، لا يبرر تطبيق شريعة الغاب حتى لو كانت الدولة بكل مظاهرها وهيبتها غائبة. 

أعرف أن الكلام عن الحق بمحاكمة عادلة وتوفير حق الدفاع، عن قرينة البراءة والحكم بناء على اليقين لا الشك، عن حكم القانون والمؤسسات، قد يبدو شعارات فارغة وساذجة وساقطة، اليوم أكثر من أي وقت مضى. لكنني أعرف أيضاً أننا لا نملك بديلاً عن التمسك بالدولة، فمهما طال أمد الحرب ستنتهي وسنبقى محكومين بالعيش معاً، وستشكّل هذه الأيام وسلوكيّاتنا أثناءها إما حاجزاً بيننا يكرس ارتيابنا من بعضنا بعضاً، وإما تأسيساً لمشترك يُبنى عليه حلمنا بقيامة الوطن.



المصدر/ الدرج


PM:12:29:16/10/2024




72 عدد قراءة