يدفع الأطفال في أوكرانيا غالياً فاتورة الحرب، سواء من خلال فقدان أحد أفراد العائلة، أو قضاء أوقات طويلة داخل الملاجئ تحت الأرض أو الاضطرار إلى التنقل من مدينة إلى أخرى. لذلك تحاول السلطات الأوكرانية بالتعاون مع المجتمع المدني، إيجاد حلول لتخفيف آثار النزاع عليهم عبر استعمال طرق علاجية عديدة، أهمها الفن.
في مدينة تشيرنيهيف الحدودية مع روسيا (أقل من 100 كلم من الحدود مع روسيا وبيلاروسيا) شمال أوكرانيا، يوجد أحد فروع منظمة "أصوات الأطفال” Voices of Children لعلاج الأطفال من آثار الحرب عبر الفن.
عند وصولنا إليه، بدأت صفارات الإنذار تُدوّي في المدينة معلنة رصد غارة جوية. سارعت المشرفات على المركز بإخراج الأطفال لإرسالهم إلى الملجأ المُلاصق له. كان غريباً ومؤلماً في الوقت نفسه أن يكون أول لقاء لنا بهم كفريق صحافي، في هذا الوقت تحديداً، وهم يعيشون سيناريو الحرب المتكرر الذي أصبح جزءاً لا يتجزأ من حياتهم اليومية، ليقضي على جزء من طفولتهم.
هكذا حصل اللقاء الأول داخل الملجأ. تجمعّنا مع الأطفال في غرفة ضيقة حول طاولة تتوسط المكان الذي كان يضيئه فانوس صغير. في البداية، خيّم نوع من الارتباك: ما الذي سنقوله نحن الصحافيين الأجانب لعشرات العيون التي كانت تحدّق فينا بفضول، والتي كانت ولا تزال شاهدة على الحرب؟.
طُلب منا قبل الدخول إلى الملجأ ألا نسألهم عن النزاع وما يمثله بالنسبة لهم وتأثيره عليهم. إذاً، ماذا سنقول لهم وهذا هو السبب الأساسي لزيارتنا للمركز؟.
ساد نوع من الصمت، قبل أن تلوح فكرة لأحد أطراف المجموعة وهو صحافي فرنسي مقيم في كييف. طلب من المترجمة أن تقول للأطفال إنه سيقدم لهم عرضاَ مُشوّقاً. فجأة، توجّهت الأعين الصغيرة نحوه وهو يحاول القيام ببعض الخدع السحرية.
ثم سرعان، ما انطلقت الضحكات من أفواه الأطفال لتُلطّف الأجواء. بعدها، بدأنا بتعريفهم بأسمائنا والبلدان التي جئنا منها، وطلبنا منهم أن يفعلوا الأمر نفسه. قمنا بامتحان معارفهم الجغرافية في لعبة لتخمين عواصم بلداننا.
انخرط الأطفال بسهولة في هذه اللعبة التي أضفت نوعاً من البهجة عليهم. غنينا لهم أغنيات من أوطاننا وغنوا لنا النشيد الوطني بكل حماسة. شعرنا بأننا ساهمنا إلى حد ما في تخفيف آثار الحرب عليهم من دون أن نذكرها بشكل صريح.
فاجأنا فضولهم وحماستهم لوجود صحافيين أجانب معهم.
سألناهم عما يريدون فعله في المستقبل عندما يكبرون، فتعددت الإجابات بين من يريد أن يكون طبيباً ومن يرغب في أن يكون محامياً أو مدرساً. لم يقل أحد إنه يريد أن يكون جندياً أو محارباً…
الأطفال في الملجأ
للتذكير، فإن مدينة تشيرنيهيف كانت أول مدينة هاجمتها القوات الروسية في أول يوم من اجتياحها للأراضي الأوكرانية في شباط/ فبراير 2022، وذلك نظراً لقربها من الحدود الروسية. كانت نيّة الروس الاستيلاء عليها في طريقهم نحو العاصمة كييف، ولكنهم واجهوا مقاومة شديدة من قبل الجيش الأوكراني، فقرروا محاصرتها.
دام الحصار إلى أواخر شهر آذار/ مارس 2022 وتم خلاله قصف المدينة بشكل متواصل، مما تسبب في مقتل مئات من المدنيين وتدمير العديد من المباني العامة والخاصة، بالإضافة إلى تضرر البنية التحتية للمياه والكهرباء والغاز. ولكن المدينة صمدت، إلى حين انسحاب القوات الروسية من محيطها في نيسان/ أبريل من السنة نفسها.
يدفع الأطفال في أوكرانيا غالياً فاتورة الحرب، سواء من خلال فقدان أحد أفراد العائلة، أو قضاء أوقات طويلة داخل الملاجئ تحت الأرض أو الاضطرار إلى التنقل من مدينة إلى أخرى. لذلك تحاول السلطات الأوكرانية بالتعاون مع المجتمع المدني، إيجاد حلول لتخفيف آثار النزاع عليهم عبر استعمال طرق علاجية عديدة، أهمها الفن.
لا شك في أن الأطفال الذين قابلناهم عاشوا تلك الأحداث وأنها تركت أثراً ما على طفولتهم المسلوبة. لهذا قرر أهاليهم أن يأتوا بهم إلى هذا المركز لعلاجهم عبر استخدام الفن، وذلك من خلال تنظيم ورشات رسم وأشغال يدوية، إلى جانب تخصيص حصص استماع للتعبير عن مخاوفهم وهول ما عاشوه.
بعد توقف صفارات الانذار وانقضاء الخطر، صعدنا إلى مقر الجمعية للتعرف عليه. اعترضتنا بعض الأمهات اللواتي جئن لاصطحاب أطفالهن إلى بيوتهن، لأن وقت الدوام قد انتهى.
أثارت انتباهنا الرسوم والألوان الجميلة التي كانت تزين القاعة الرئيسية حيث عُلقّت الصور التي رسمها الأطفال. في وسط القاعة، كانت هناك طاولة كبيرة وُضعت عليها أوراق وألوان مائية ورُسمت عليها بعض الرسوم. كان واضحاً أن هذا هو المكان الرئيسي المخصص للقيام بمختلف الأنشطة الفنية.
في تعريفها لمهمتها، نقرأ على موقع منظمة "أصوات الأطفال” أنه "لا ينبغي أن يبقى أي طفل وحيداً أمام تجربة الحرب، لذلك تعمل المنظمة على ” مساعدة الأطفال على السيطرة على ما يحدث في حياتهم وعدم الاعتماد على الدعم كل الوقت”.
وتتمثل أولويتها في ” تقديم الدعم النفسي الشامل على المدى الطويل للطفل، لفهم احتياجاته بشكل كامل والعمل على الوقاية من اضطراب ما بعد الصدمة والتعامل مع عواقب الحرب”.
عادة ما يكون الأطفال الذين يتم توجيههم إلى المنظمة من أولئك الذين أمضوا وقتاً طويلاً في الملاجئ أو الذين عاشوا تجربة الهروب من النزاع في المناطق الساخنة أو الذين أُصيبوا أثناء الحرب.
بالتالي، تكون مهمتنا "إخراجهم هم وأهاليهم من حالة الصدمة عبر الالتقاء بهم بصفة دورية والاستماع إليهم، وتوفير نوع من الاستقرار العاطفي والأمان لهم”، تؤكد أولكساندرا هيريشنكو منسقة المنظمة في تشيرنيهيف.
من جهتها، تؤكد الطبيبة النفسية إيرينا يرمولينكو، التي تعمل هناك أيضاً "أهمية أن يتم تقديم الدعم النفسي للأهالي حتى يستطيعوا بدورهم مساعدة أطفالهم”.
أولكساندرا هيريشنكو منسقة المنظمة في تشيرنيهيف
تتعدد الأنشطة التي يتم تقديمها في إطار الدعم، حسبما فسرت لنا، حيث تتراوح ما بين الاستشارات النفسية وجلسات العلاج الجماعية والفردية وورش العلاج بالفن والعلاج بالرمل، والعديد من الأنشطة العلاجية والترفيهية الأخرى.
يدرك القائمون على المنظمة أن مجرد الاضطرار إلى الاختباء داخل الملجأ بصفة يومية أو حتى متابعة أخبار الحرب على شاشات التلفزيون، يمكن أن يؤثر بشكل كبير على نفسية الأطفال، لذلك يتم استعمال مجموعة من الألعاب التي تهدف إلى مساعدتهم على تجاوز القلق، وقد أرتنا الطبيبة النفسية مجموعة منها وأهمها دمية "القط الطويل” الذي يحضنه الطفل فيشعر بالأمان.
تقول رسلانا وهي أم لطفل عمره 6 سنوات: ” أنتم حقا مدهشون. أنا معجبة بالعمل الذي تقومون به مع أطفالنا. شكراً جزيلاً لجلب الكثير من الفرح والبهجة لطفلي”، هكذا جاء في شهادتها الموثقة في موقع المنظمة التي تمتلك 13 فرعاً في كامل أوكرانيا.
مستشفى "أهماتديت” للأطفال في كييف يستعيد نشاطه بعد القصف
في كييف، على بعد 128 كيلو متراً من تشيرنيهيف، يقع مستشفى "أهماتديت” Ohamatdyt وهو أكبر مستشفى للأطفال في أوكرانيا، وقد تم قصفه في 8 تموز/ يوليو 2024. خلّفت عملية القصف 44 قتيلاً وجُرح العديد من الأطفال الذين كانوا يُعالجون في المستشفى من أمراض خطرة مثل السرطان، لتزيد الحرب من عمق معاناتهم.
المستشفى عندما تم قصفه في تموز / يوليو 2024
تصادف وصولنا إليه مع إطلاق صفارات الإنذار المعلنة عن انطلاق غارة جوية جديدة على العاصمة الأوكرانية. سارعنا بالدخول إلى الملجأ أسفل المستشفى، حيث وجدنا بعض المرضى والأطباء.
شد انتباهنا وجود عائلة كانت تحيط بطفلة مصابة بالسرطان. كم هو مؤلم أن يكون الصراع من أجل الحياة مضاعفاً في هذه الحالة: صراع ضد المرض وضد الحرب… وخاصة لطفل!
قابلنا هناك نائب رئيس قسم الجراحة الدقيقة فاليري بوفكون، الذي كان حاضراً عندما قُصف المستشفى "عندما ضربت القذيفة المبنى كنت في قاعة العمليات، شاهدت زجاج النوافذ وهو ينكسر وتدمير جزء من الجدران.
حاولت المساعدة في إخراج المرضى وإرسالهم إلى الملجأ ولاحظت في طريقي أن العديد من الأطفال أصيبوا، كما جُرح أحد زملائي الأطباء وقمنا بنقله بسرعة إلى قسم الجراحة”، يتذكر الطبيب.
يتأسف فاليري على الدمار الذي طال أجزاء كبيرة من المستشفى مما أثر على الخدمات الصحية المقدمة للمرضى، حيث يتم حالياً إرسال العديد منهم إلى مستشفيات أخرى لتلقي العلاج. وكانت طاقة استيعاب المستشفى تصل في الماضي إلى حوالي 700 سرير لتنزل حالياً إلى 500 سرير.
ويفسر طريقة عمله بصفة عامة عندما تُدوي صفارات الإنذار: "لو كنت في قاعة العمليات وأنا بصدد إجراء عملية، فإنني أحاول إنهاءها بسرعة وأحرص على إبعاد المرضى عن الشبابيك ووضعهم في أماكن آمنة، في انتظار إرسالهم إلى الملجأ”.
رغم جهود إعادة إعمار المستشفى التي رصدت لها الحكومة الأوكرانية مبلغ 9.6 ملايين دولار حسب ما أعلنه الرئيس الأوكراني، إلا أنه ما زال يحمل آثار الدمار، حيث يمكن الملاحظة بالعين المجردة النوافذ المكسورة والجدران المدمرة والسيارات المحروقة.
الدمار الحالي في المستشفى
بينما كنا نعاين حجم الدمار الذي خلفته القذيفة، اعترضت سبيلنا امرأة هي وابنها كانت خارجة من المستشفى، وتبيّن أنها كانت موجودة وقت قصفه في يوليو/ تموز المنقضي.
يومها كانت هانا تريشنكو ترافق ابنها إيفان ذا ال14 عاماً إلى المستشفى، لإجراء بعض الفحوصات كونه يعاني من مشاكل في الكلى.
تقول: "عندما سمعنا صفارات الإنذار، طلبت منه أن نذهب للاختباء في الملجأ ولكنه رفض قائلاً: إننا سنكون وحدنا هناك . ولكنني أصررت على ذلك لحسن الحظ، لأننا ما إن وصلنا إلى الملجأ حتى سمعنا دوي الانفحار. ورأينا زجاج النوافذ يتهشّم وبعض الجدران يسقط. شعرنا بخوف كبير”.
لم تعد بعدها هانا وابنها إلى المستشفى إلا في اليوم الذي التقيناها فيه، وصادف أنه كان هناك مرة أخرى إنذار بانطلاق غارة جوية على كييف. أيقظ ذلك ذكريات حزينة داخلها، خاصة وأن سيارتها ما زلت تحمل آثار الغارة السابقة.
على عكسها، بدا إيفان ابنها متحمساً لرؤية الصحافيين يتحلقون حوله لمعرفة قصته، وهو يحاول أن يكلمهم بالإنجليزية التي تعلمها عبر اليوتوب والألعاب الإلكترونية، وأتقنها أكثر عندما جاءت منظمة أميركية للعمل في مركز اللاجئين الذي يعيش فيه.
قصة إيفان هي سلسلة من التنقلات بين المدن والملاجئ الأوكرانية، منذ أن اضطر مع والدته إلى مغادرة بيتهم في شبه جزيرة القرم في 2014، بعد احتلالها من قبل الجيش الروسي.
ذهب في البداية للعيش في مدينة خيرسون، ثم حين سقطت المدينة في أيدي الروس في آذار/ مارس 2022، اضطر إلى الانتقال إلى مدينة كاميانسك، وأمام تعرضها للقصف، قرر الولد وأمه الانتقال أخيراً إلى كييف.
ولكن بسبب ظروفهما المعيشية الصعبة، ظلا يعيشان في مركز للاجئين. وكأن الحرب هي قدر مكتوب على جبينه، تلاحقه أينما ذهب حتى إلى المستشفى.
مع إيفان ووالدته داخل المستشفى
آثار النزاع تغلغلت حتى في شؤون عائلته لتعقد الأمور أكثر، حيث تروي والدته هانا كيف انقمست الأسرة بين المساندين لروسيا والمساندين لأوكرانيا، بعد اجتياح القوات الروسية لشبه جزيرة القرم حيث كانت تقيم. واختارت والدتها، أي جدة إيفان، الجانب الروسي في حين اختارت هانا الجانب الأوكراني، لينشأ خلاف عائلي انتهى بإخراجها من قبل أمها من المنزل الذي كان الجميع يسكنون فيه، لتجد نفسها مضطرة إلى الانتقال إلى مدينة خيرسون والتنقل من ملجأ إلى آخر.
تروي هانا هذه القصة والدموع تنهمر من عينيها وتقول إنها إلى حد الآن في قطيعة مع والدتها وبقية عائلتها، التي تحاول من وقت لآخر الاتصال بإبنها والاطمئنان عليه.
تترك الحرب آثاراً نفسية كبيرة على البالغين لا تُمحى بسهولة برغم مرور الزمن ولكن ماذا عن الأطفال؟
يقول الطبيب النفسي في مستشفى أهماتاديت للأطفال أندري هورا إنه يعاين العديد من الحالات لأطفال مصابين باضطرابات نفسية، من قبيل القلق واضطرابات النوم وفقدان الشهية والميل إلى العزلة وآثار ما بعد الصدمة. ويزيد تمدد الصراع الذي طال أكثر من سنتين ونصف السنة في انتشار هذه الاضطرابات.
ويضيف "عندما حصل العدوان على المستشفى، حاولنا سريعاً الاهتمام بالأطفال والتواصل معهم لتخفيف آثار الهجوم عليهم، ونقلنا بعضهم إلى مستشفيات أخرى كي يتمكنوا من تلقي العناية اللازمة”. لكنه يدرك أن المهمة تحتاج إلى وقت، ولحسن الحظ حسب قوله، فإن عقل الطفل أكثر مرونة من عقل البالغ وقدرة على تجاوز الأزمات، مما يسهل عملية العلاج.
إحدى الرسومات التي رسمها الأطفال في المستشفى
من أكثر الأساليب التي يتم استعمالها للتخفيف من الآثار النفسية للحرب على الأطفال هي دعوتهم للرسم، لأنه يسمح لهم بالتعبير عن أحاسيسهم. وقد أرانا الطبيب مجموعة من الرسوم التي كانت تحفل بأعلام أوكرانيا وألوانها.
كان في البعض منها احتفاء بالنصر وكان البعض الآخر يعكس النفسية الحزينة للأطفال، من خلال تجسيد أشخاص بدون مأوى أو رسم البيوت التي لم يعد ممكناً العودة إليها.
يُعلمنا الطبيب النفسي أن هذه الرسومات لا تبقى حبيسة المستشفى، إنما يتم عرضها في معارض متنقلة داخل أوكرانيا وخارجها.
نغادر المكان وفي القلب حسرة على هذه الطفولة التي تمت التضحية بها على مذبح الحروب والنزاعات…
-daraj