أعلن تيودور أدورنو بإذعان ويأس أمام الكارثة الإنسانيّة، الهولوكوست، وأمام غرف التعذيب والمعتقلات النازية: "لا شعر بعد أوشفيتز".
سوف ننتظر أقلّ من قرن لينفتح سجن صيدنايا في سورية على العالم بعد سقوط القبضة الأمنية الأسدية. وسوف يُعلن بكلمات قليلة مخيفة أنّ مدينةً كاملة اسمها دمشق، قد تكون أرضها كلّها التي سرنا عليها لسنوات إنما هي أسقف لمعتقلات. ليس لا شِعر فقط، لا لغة.
ماتت اللغة أمام الكارثة، بانت استحالتها أمام الرَوع الإنسانيّ. ليس الشعر وحده الآن، بل معه اللغة بوصفها أداة اتصال وتواصل وتعبير وتمثيل، باتت شيئاً عائماً، مائعاً، لا قيمة له، ما دام ليس بوسعها مجاراة الكارثة أو موازاتها. لم يعد بوسع اللغة أن تمثّل الحدث، الحدث بوصفه روعاً، بوصفه تأكيداً لموت الإنسان، لا في الخطاب الفلسفي فحسب، بل في كلّ الخطابات والفضاءات الممكنة.
وها هي اللغة إذن تعلن عن قصورها أمام الحدث. إنها تفقد أولى مهامها، وهي التمثيل، وتخسر كلّ إمكاناتها فتتضح رداءتها وقلّة حيلتها. ومع موت اللغة مات الخيال، إنّ أعتى الخيالات، أشدّها جموحاً وجنوحاً واعتلالاً، لم يكن بوسعه تقديم فرضيّة من هذا النوع: تخيّل أنّ مدينةً كاملة مقسومة إلى فضاءين: أرضها، أي سطحها، إنما هو سقفٌ لعالمٍ ثانٍ مخفيّ، المعتقل.
هذه الهزّة في الوعي، وكذلك العقل، تُدخل مفاهيم أخرى كثيرة أيضاً في موتٍ فوريّ: علم الحقوق وتاريخ الجريمة وسيكولوجيا وسوسيولوجيا الإجرام، والعلوم السياسية. كل السياقات المعرفية تدخل في حالة موتٍ فوريّ.
وسرعان ما تصبح العودة إلى "ولادة السجن" عند ميشيل فوكو شيئاً عبثياً، مع السجون السورية ثمة موتٌ للسجن، للمراقبة والمعاقبة، وولادة لشيءٍ آخر لا يمكن توصيفه. وسرعان ما تصبح العودة إلى "حيونة الإنسان" شيئاً فارغاً من المعنى. مع السجن السوري، يموت أي خطاب إبستمولوجي وأي محاولة معرفية، أي محاولة للمعرفة.
أمام الحدث، أمام الرَوع، وأمام انكشاف السجون من الداخل، وإمكانيّة أن يراها السوريون كلّهم للمرة الأولى، ثمة جملة تشي عن نفسها وتفضح مخاوف 54 سنة كاملة، تلك الجملة التي يقولها جان بيرجوف: "لأننا نكون حيث لا نوجد". وأخرى لجول فاليه تقول: "المكان أحالني إلى الصمت".
لكنّ الصمت الذي أحالت رؤية السجون السورية من داخلها السوريين إليه هو نفسه الانفجار: مخاوف ورعب 54 سنة، ظلّت حبيسة الرأس والقلب، تفصح عن نفسها دفعةً واحدة لا بالكلام، بل عن طريق التحديق بالسجن: المكان الذي أمكن أن نوجَد فيه، في أية لحظة، ودونما سبب. التحديق في المكان المكشوف ينوب عن الكلام، عن اللغة. الرؤية هي الفعل، تأمّل المكان الذي أمكن أن نوجد فيه، عن طريق أي صدفة، دونما علّة وسبب، طيلة 54 سنة.
مع لحظة الانكشاف، انكشاف السجن من داخله، من أعماقه، ومع انتشار جملٍ قصيرة بسيطة وتخمينات عن مواقع معتقلات وسجون أخرى مخفيّة، انكشف شيءٌ آخر: المدينة كلّها كانت فضاءً داخل فضاء. المدينة كلها تنقسم إلى أرضيّة وقبو، طابق أرضيّ وقبو. الفاصل بينهما هو السقف. المدينة كلّها مساحتان إذن: مساحة ما قبل أن يغدو الإنسان معتقلاً، ومساحة المعتقل.
وسرعان ما ألمَّ بنا إحساسٌ بالعار، لأنّ معظم الأراضي التي أكلت أقدامنا سيراً، إنما تُخفي بشراً مثلنا تحتها. وسوف تظلّ هذه الرمزيّة، بكل ما يرافقها من رعشة، إحساساً مجلجلاً مرعباً يرافقنا ولا نعرف متى نتعافى منه، ولا نعرف كيف نتعامل مع تداعياته. مع هذا الكشف، لم تعد ثمة دراسة اجتماعية أو مكانيّة أو بينيّة صالحة، لا جورجيو أغامبين، ولا ميشيل فوكو، ولا غاستون باشلار، ولا توم لوتز، ولا جورج فيغاريلو. مع هذا الكشف، أعلنت كل الأبحاث والدراسات موتها الفوريّ. لأنّ التداعيات الحسيّة الناشئة بعد الكشف، على جمعيّتها في مكان وفرديّتها في مكانٍ آخر، تُعلِن ارتباطها وامتنانها للجهة التي تمكّنت أو كانت سبباً بالكشف في المقام الأول.
بكلمات أخرى: إنّ الإحساس بالعار، أو بالمسؤولية، أو بأيّ شيءٍ آخر على اختلاف التسمية، ترافق مع لحظة الكشف نفسها، أدخل البعض في حالة من الارتباط والامتنان للجهة التي حرّرت السجون وكشفت عنها، أي هيئة تحرير الشام. وسرعان ما نشأت خطابات إثر هذا الإحساس المحيّر مفادها قبول الجهة المُحرِّرة وضرورة قبولها حتى مع انزياحها عن خطابها قبل التحرير، لأنها السبب المباشر في تعرية كل ما تمّت تعريته. وبهذا الاضطراب تمّ نكران أو إغماض العين عن نضالاتٍ تاريخية كثيرة بدأت منذ بدأ حكم الأسد، وعن كل كلمة قيلت أو فعلٍ مورس وكان سبباً في التحرير نفسه.
* كاتب فلسطيني سوري مقيم في دمشق
المصدر/ العربي الجديد