أشعر بغربة حقيقية أمام شاشة اللابتوب، وأنا أدوّن المادة هذه، لم أألفَّها والله، مع أنني أمضيت معها أكثر من عشرين سنة، تطالعني وأطالعها كل يوم، حتى صار بإمكاني ترتيب أفكاري، وكتابة ما اريد، وحفظ ما أكتب، وبعناية وإن لم تكن كبيرة، ثم أنّي وإنْ على مضض فقد ألفتُ الآلة هذه، واستحسنتها أكثر مما يجب، فهي والحقَّ أقول: من اليسر ما لا أجده في غيرها، لكنَّ حنيناً جارفاً يشدني من أعماق روحي الى القلم والورق والممحاة، الى رائحة الحبر، وشكل الحروف وترتيب الجُمل، الى طفولة ما حلمت بمغادرتها يوماً. أعتقد بأنَّ التعامل مع الأشياء هذه لا يعني إنجاز ما نريد حسب إنما الامرُ يتعلق بالإبقاء على الطفولة نابضةً وإنْ كانت على استحياء.
في الدُرجِ، أسفلَ الطاولة، حيث أجلسُ وأكتب، أحتفظُ بأقلام ومماحٍ وبراياتٍ كثيرة، اشتريت بعضَها، وأهديتُ بعضَها الآخر، يطيب لي أحياناً أنْ أستلَ قلماً، أكتب به ما أدونه من يوميات، وأخفي آخرَ، أتأمله ثم أخفيه، أفعل ذلك بشغف لا يعرفه إلا من كابدَ غربته. الحياةُ مع الأقلام والأوراق والمحابر والمماحي لا تشبهُ نظيرتها الإلكترونية، مع أنَّ الأخيرة تحتفظ بالصور ومقاطع الفيديوهات والاصوات، ويمكنني وبضغطة زر سماعَ ومشاهدة ما أريد، لكنها برأيي لا تختلف عن أيِّ حجارة، فهي صمّاء، وبكماء، وعمياء أيضاً، وفيها من البلادة ما فيها.. على خلاف ما أجده في الأقلام والأوراق وملحقاتها الملونة. هل جرّب أحدُكم سماعَ صريفِ القلم على الورقة، بل وحشرجته أحياناً، وهو يمرعُ أو يتلوى في بطن الورقة؟ هناك أزمنةٌ تظل تباعدُ أو تقربُ بين الاحرف والكلمات.. وهلّا استرجعتم معي صوتَ المبراة وهي (تقرش) القلم، أم هل استعدتم معي معاينة لفائف المحو السوداء، وهي تتدحرج وتنسرحُ بأنفاسنا، خارج الورقة؟
يقول ابن قتيبة الدَّيْنُوَري(213-276هـ) قال أبْرويزُ لكاتبه في تنزيل الكلام:" إنّما الكلامُ أربعة: سؤالك الشيء، وسؤالك عن الشيء، وأمرُكَ بالشيء، وخبرُكَ عن الشيء؛ فاجمع الكثير مما تريد في القليل مما تقول". ربما يتحققُ مراد الكاتب على الآلة في كتابة ما يريد، وقد تأخذ رسالتُه طريقها الى من أرسِلتْ اليه في غضون دقائق لا أكثر، ثم تبلغُ فكرتها، غير منقوصة، لكننا لن نُنزلها منزلتها، ونحن نتصفح أمّهاتِ الكتب، التي خُطّت وصِيغت بأقلام هؤلاء الافذاذ، من الكتبة والنُّساخ والمحبرين، الذين أوقفوا أصابعهم على الورق والقصب والمحابر، وظلّوا عاكفين، يغمسون أقلامهم في الدِّويْ، وهي تمتلأ وتكتبُ وتنضب، سنواتٍ وسنوات، وهم يشعلون الشموع، ومصابيح الزيت، فتذبل، وتذوي، وتخمد، فيصبحُ الصباح رطباً على لفائف من الورق، محتدمات بالأفكار والرؤى، وهي تتلاقى وتتقاطع، أو وهي تمدُّ الولاة والحكّام بمادة حكمهم، ولنفتح أعيينا وسيعاتٍ على العشرات والمئات من النسّاخ، الذين كانت تحفل بهم سكك وأسواق البصرة والكوفة وبغداد ودمشق والقاهرة، هؤلاء الذي أدمنوا الكتابة فكانت أبواباً لمعيشتهم، مثلما هي اليوم زادٌ لمعرفتنا وافتتانا.
إذا كانت القراءة غايةً عند البعض، تتحقق في الكتاب الورقي، مثل تحققها في الكتاب الإلكتروني، فهي غير ذلك عند بعضنا، نحن، الذين لازمنا الورق والاقلام والاحبار أكثر من نصف قرن، هناك طفولةٌ ورقيّة تأبى إلّا أن تبقى، وهناك شيخوخة الكرتونية لا نريد لها أنْ تبلغَ غايتها في الإذلال والحرمان. يتفضل عليَّ الكاتبُ والروائيُّ(تحسين كرمياني)بإرسال العشرات من الكتب الإلكترونية، على صفحتي في الواتس آب، دونما كلفة مالية، يطلعني فيها على النادر من الروايات، وكتب الشعر وغيرها، فأتصفح وأقرأ ما شاء لي منها، وهي من أفعال(الحضارة) بكل تأكيد، التي أسعدُ بها، لكنني، لا أكتفي بذلك، فأعمدُ الى إرسال بعضها، الذي أحببتُ الى مطبعة أحد الأصدقاء، ليصنع لي منها كتباً ورقيةً، حيث تبلغ سعادتي إِرْبتها ومنتهاها، ولسان حالي يقول مع النويري شهاب الدين(ت 733 هـ): "فامتطيتُ جَوادَ المطالعة، وركضتُ في ميدان المراجعة، وحيثُ ذلَّ لي مَركِبها، وصفا لي مشربُها، آثرتُ أنْ أجرِّد كتابًا أستأنسُ به، وأرجعُ إليه…"