كي لا نشارك في الخديعة
ديانا مقلد

هناك من يقول ألا قيمة للنقاش ولا لرأينا في ظل ما يجري، ربما. لكن مع هذا، هو وقت النقاش الصريح، لا وقت الحذر والهرب منه. نعم ربما هي آراء لن تضع حداً للحرب لكنها بالحد الأدنى محاولة لعدم المشاركة في الخديعة التي تعاد صياغتها مجدداً على دم من قضوا وأرواحهم.

لبنان صار غزة…

الهاجس الذي لازمنا طوال عام من متابعة مجازر وجرائم إبادة ترتكبها إسرائيل بحق غزة وأهلها، بات اليوم هنا حولنا نراه ونعيشه ونتنفّسه بين أهلنا وأصدقائنا وأبناء بلدنا ومن على شُرف منازلنا.

كان جلياً أن إسرائيل كسرت في غزة كل الخطوط الحمر وألا رادع لها عن مجازرها ولا محاسبة، بل مزيد من المال والسلاح الأميركي. ومع ذلك كله، كنا في لبنان نُقاد إلى هذه الحرب غير المتكافئة باسم "الإسناد”، فلا مشيئة تعلو مشيئة الولي الفقيه الذي كرّس معادلة "وحدة الساحات” بوصفها مسؤولية الأطراف كـ”حزب الله” و”الحوثي”، أما الرأس في طهران فيقوم بردود محدودة مدروسة لا تفتح جبهات كاملة، فتلك يقع على عاتق الفلسطينيين واللبنانيين واليمنيين خوضها حتى آخر قطرة من دمهم وآخر حجر من بلادهم.

العالم متآمر متخاذل منحاز إلى إسرائيل، حقيقة نعرفها واختبرتها غزة بأبشع الأساليب، حقيقة ينبغي أن نبقي من إشهارها في وجه الغرب قادة وأعلاماً وصناع رأي. لكن المواجهة مع الغرب لا تنفي أن نقاشنا الداخلي لا يمكنه أن يُلجَم باسم مواجهة الخذلان الغربي.

اليوم وبعد طول إنكار، عاد بعض مسؤولينا في بيروت الى الحديث بخجل وتردد عن وقف إطلاق النار وتطبيق القرار 1701، وعن فصل مسار لبنان عن غزة. وإذ بالرد يأتي من طهران، فلم يتورع المرشد الأعلى علي خامنئي في خطبته الأخيرة، عن حثنا على المزيد من "المقاومة” فيما بلدنا يُباد ويُقتل قادة وعناصر حزبه الأقوى بأبشع الأساليب، وأتى وزير خارجيته ليبلّغ حكومتنا ورئيسها بألا فصل للساحات على رغم هذا الموت المعمم كله.

هل تذكرون تلازم  المسارات؟ نحن اليوم نشهد تلازماً موازياً اسمه تلازم الساحات.

الإسناد مسؤوليتنا، لكن حين نصبح نحن ضحيته فلا "إسناد” إيراني لنا، ولتكن مزيداً من الشعارات الدينية والوعود بعالم آخر أفضل من هذه الدنيا الفانية. 

لبنان الآن بلا قيادة سياسية جدّية بعدما جهد "حزب الله” على مدى السنوات الماضية في تقويضها، فعرقل كل مسار يُنتج سلطة لا ترضى بسلاحه، وها هو اليوم ونحن كلنا معه ندفع الثمن الهائل. 

تعبث همجية إسرائيل بمدننا وقرانا، فتهجّر الآلاف وتبيد عائلات وتدمر قرى ومدناً وتستهدف فرق الإسعاف، وفوق هذا تطيح بـ”حزب الله” رأساً وقادة وعناصر في شهية قتل لا ضابط لها.

كيف بتنا في أتون حرب إبادة إسرائيلية ضد "حزب الله” ولبنان؟ وأي قيادة سياسية يمكنها أن تحاول وقف انزلاقنا نحو الهاوية؟ هما سؤالان مرذولان بالنسبة الى المطبلين لفتح الجبهات ووحدة الساحات، ومن يُعلي السؤال هو عميل يستحق التخوين. 

في أتون جهنم هذا، يخرج علينا من يؤنبنا بأن الوقت ليس ملائماً للحديث عن كيفية إقحامنا في الحرب وعن المصير الذي لا نعلمه، فنحن إما مع "المقاومة” التي يخوض مقاتلوها معارك ضارية على الحدود وإما نحن انهزاميون متآمرون. 

والنقاش هذا ليس تهافتاً بقدر ما هو محاولة حماية ما تبقى من البلد، فنظرية "الردع” وشعار أن سلاح "حزب الله” يحمي لبنان لم يعد ممكناً الدفاع عنهما بل بالعكس تماماً، فقد ظهر جلياً أنه حتى لبنان المشرذم الضعيف يملك قدرة على حماية "حزب الله” وبيئته، أكثر مما يستطيع الحزب نفسه أن يدافع عن البلد وعن شيعته.

مواجهة هذا الواقع ليست انهزاماً ولا انحيازاً إلى إسرائيل، التي تُظهر شهية قتل وتدمير هائلة. السؤال هو محاولة للحدّ من الهزيمة ووقف عداد الضحايا والتفكير بمستقبل البلد وهويته بعد هذا الخراب كله.


AM:12:20:10/10/2024