يموج المشهد بالذهول والرعب. انفتحت أبواب السجن فجأة، من دون سابق إنذار، معلنةً لحظة كانت تبدو مستحيلة. الفتيات الصغيرات خرجن متردّدات، ينظرن حولهن بعيون مذعورة لم تألف الضوء منذ سنوات. أبواب القهر التي كسرها الثوار بدت أمامهن كنافذة إلى عالم جديد، لكنه عالمٌ مجهول، يحمل من الغموض بقدر ما يحمل من الأمل. كان سقوط الطاغية خبراً مزلزلاً، لكن هذه اللحظة بالنسبة للفتيات كانت بداية تساؤلات مربكة: إلى أين نذهب الآن؟
الحرية، التي كانت كلمة تُنطق بخوف في سراديب السجون، أصبحت واقعاً مباغتاً. لكنها لم تكن سهلة. واحدة منهن، بصوتٍ خافتٍ ومرتعش، سألت: أين متعلقاتي؟ أين هويتي؟. ... بدا السؤال بسيطاً، لكنه في عمقه كان أكبر من مجرّد متعلقات مادية. كانت المتعلقات وهوياتهن أوراقاً تائهة تروي قصص الماضي الضائع. بدا الأمر كما لو أنهن يبحثن عن دليل صغير يعيد إليهن الشعور بأنهن ما زلن موجودات، أنهن لسن مجرّد أرقام في قوائم الاعتقال ثم الموت.
ما زال الوقت مبكّراً على الفرح أو الاحتفاء. الحرية، بكل ما تحمل من وعد، لم تكن كافية لتغلق جراح السنوات التي قضينها في زنزانات ضيقة، متلاصقة كجدران الألم، حيث لا فرق بين الليل والنهار.
يضيق المكان عليهن حتى يصير السجن داخلهن، والخوف جزءا من تكوينهن. في تلك الزنزانات، كانت أحلام الطفولة تُسحق تحت وطأة السلاسل، ولم يكن هناك إلا الصمت والدموع، وذكريات باهتة عن عالم خارج الجدران.
الثائر الذي كسر القيد وفتح الأبواب قال لهن بلهجة مليئة بالفخر والأسى في آن: "اذهبن إلى حيث تشأن، كل سورية حرّة الآن". لكن الحرية التي نطق بها لم تكن تحمل إجابات عن أسئلتهن المعلقة. إلى أين يذهبن في واقعٍ ما زال غارقاً في الفوضى؟ كيف يستعدن حياتهن التي جُرّدن منها؟ هل الوطن الذي بات حرّاً سيكون قادراً على احتضانهن، أم أن الألم سيظل يلاحقهن حتى خارج القضبان؟
لم تكن الساعات التي أعقبت خروجهن أقل حيرة من سنوات السجن. والعالم الخارجي بدا جديداً، لكنه أيضاً كان غريباً ومربكاً. ماذا ينتظرهن بعد هذه اللحظة؟ ما زال الوقت مبكّراً لتوقع الإجابة. لم يكن في الخارج أحد بانتظارهن. الأهل الذين فارقوهن قد يكونون الآن في قبور مجهولة، أو في مخيمات التشريد، أو ضائعين وسط الخراب. الوطن الذي أُعلن حرّاً ما زال يحاول اكتشاف ذاته، ولم تبدأ بعد رحلة ترميم الأرواح المكسورة فيه.
كيف استطاع الطاغية أن يملأ بلاده بهذه السجون؟ كيف تمكّن من تحويل وطن بأكمله إلى شبكة من الخوف والقهر والزنزانات؟ كل زنزانة كانت مرآة تعكس حجم الجريمة. الجدران شاهدة على صرخاتٍ لم يسمعها أحد، على أحلام صغيرة أُطفئت بلا رحمة، وعلى أعمارٍ ضاعت بين التعذيب والإهانة والانتظار الطويل.
بالنسبة للفتيات، ما زال القادم غامضاً، والأمل الذي ولد مع خروجهن من السجن لا يمكن إنكاره، لكنه أملٌ هشّ، يحتاج إلى أيد ترعاه ووطن يحميه. الآن، وهن يقفن على أعتاب الحرية، يواجهن تحدّيات أكبر من التي واجهنها في الزنزانات. كيف يمكن أن تبدأ حياتهن من جديد؟ كيف يستعدن ثقة سُلبت منهن بالقوة؟ كيف يجدن مأوى وآماناً في وطنٍ ما زال يحاول أن يلتقط أنفاسه بعد عقود من الطغيان؟
الوقت مبكّر، لكن ما حدث هو الخطوة الأولى. والعالم الذي شاهد أبواب السجون تُفتح أول مرة ينبغي ألا يغضّ الطرف عن مصير هؤلاء الفتيات وغيرهن ممن خرجوا إلى الحرية وهم مثقلون بالآلام. هذه اللحظة هي دعوة إلى العالم ليقف إلى جانبهن، ليتأكّد أن الحرية التي تحققت لن تتحوّل إلى سراب. ما زال الوقت مبكّراً لكل الفرح، لكنه أيضاً ليس متأخّراً لمزيد من الأمل.