يحدثُ في المزرعة التي خلَعت "أسدَها"
عبير نصر
من بديهيات السياسة التسليم بأنه لا دوام لممالك الأبد المميت، وبأن التجربة التاريخية الإنسانية لسقوط الطغاة والمستبدّين تُظهِر لنا دوماً المشهدَ الذي يكاد يكون نسخةً مكرورةً لسيناريو واحد؛ الفوضى وسط فضاء ملتهب من الاستقطاب العنيف، لا يترك معه مكاناً لحوار الأفكار وتنوعها. ولعلّ المتابع المشهدَ السوري من خارجه يكون أوفر حظّاً في رؤية أنّ مسار العودة إلى الاستقرار بعد نظام الأسد (لم يستغرق إسقاطه لهشاشته سوى مشوار الطريق من حلب إلى دمشق فاللاذقية)، يكتنفه غموضٌ شديدٌ لا يمكن القياس عليه بصورة حاسمة، خاصّة أن سورية لا تزال موّزعةً بين قوىً محلّية مسلّحة بينها خلافات سياسية وأيديولوجية معقّدة. في التوازي، تُعطي قراءة حسابات "الخسائر والغنائم" في ميزان الدول المؤثّرة في الملّف السوري مؤشّرات تمكّننا من استيعاب ما حدث، ورسم بعض التوقّعات وفقاً لها.
وفي سياق ما تقدّم ذكره، لا بدّ من التذكير بأن عملية طوفان الأقصى جاءت لتدفع باتجاه إعادة رسم ملامح الشرق الأوسط من خلال تغيير الوقائع بشكل متسارع في المنطقة، وسورية على وجه الخصوص، لذا على السوريين أن يدركوا أنهم يتخبّطون داخل رحمٍ سياسي شبه عقيم تظلّله معاناة بشرية هائلة، وأنّ العلاقة الجيدة مع المُحيطَين الإقليمي والدولي لا غنىً عنها لتحصين التحوّل نحو سورية الجديدة، وفرض الكيفية التي يريدون بها تشكيل ملامح بلدهم المُشتهَى. أمّا من يغمز بخبث بأن المصالح وحدها هي التي حرّكت القاع الراكد، فعلينا إذاً أن نشكر الأقدار التي جعلت الدول الفاعلة تختلف مع نظام الأسد كي تقرّر خلعه أخيراً، وهي نفسها التي كانت، ومنذ وقت قريب، تسعى لإعادة تأهيله بما يضمن مصالحها ويهدّئ مخاوفها.

الصراع في سورية مستمرّ، ومع ختام مشهد رحيل الأسد، ستدخل سورية مرحلةً جديدةً من التجاذبات والاستقطابات

خرجت سورية منهكةً ومثقلةً بالجراح، لكنّها تتنفّس الصعداء للمرّة الأولى منذ عقود، لتبرز مشكلةٌ متّصلةٌ في السياق، تتعلّق بفصائل المعارضة نفسها، التي إن توحّدت لإسقاط نظام الأسد لكنّها مختلفة في بقية الجوانب، في المشارب الفكرية والولاءات والتحالفات الدولية، وستقف لاحقاً في مواجهة عموم القوى السياسية التي انزوت قسراً بفعل النظام، ناهيك باتجاهاتٍ مدنية وأيديولوجيات متعدّدة وخليطٍ من المذاهب والعرقيات، وليس بالضرورة أن تكون كثرة الفواعل المؤثّرة في المشهد السوري الراهن إيجابيةً ما لم تتوافق على مبادئ وطنية تكون ميزاناً لخلافاتها. عندها فقط تكون سورية في الطريق الصحيح، وستقفز بخفّة فوق القاع السحيق الذي نرجو أن تراه بعينٍ مختلفة لتتجنّبه تماماً.
يعيش الشعب السوري مرحلةً مفصليةً واختباراً وطنياً فارقاً، وكلّ جهد يُبذل سيكون مؤثراً في بناء دولة المواطنة، حيث لا صوت يعلو على صوت القانون، في بلد كان يسمّى "مزرعة الأسد"، وفيها كان السوري يعيش في حضن العدم، الذي لا تأكيد في حضرته. أمّا أولى خطوات الخلاص فتبدأ بالحفاظ على وحدة النسيج الاجتماعي المتنوّع، وتجاوز الانقسامات، واحتضان الاختلاف. أيضاً، المطالبة بمحاكمة كبار قتلة النظام ومديري أجهزة التعذيب فيه، فسقوط الأسد وضع السوريين أمام استحقاقات كثيرة، لا بدّ لهم أن يسارعوا إلى إنجازها قبل أن تسارع الدول الفاعلة في الملفّ السوري إلى إعادة تدويره وفق مصالحها. أمّا التحدّي الأبرز الذي يطرح نفسه، فهو كيفية اجتثاث المخرجات المشوّهة لنظام الأسد، من بينها ظاهرة "المكوّعين"، والاستعداد الرخيص للتزلّف وتشويه الثورة، إضافة إلى سيمفونية "حماية الأقليات" الممجوجة، والتلويح بـ"أفّيش" الرعب الجديد الذي تبنّاه بعضهم؛ "من يحرّر يقرّر"... إلخ. على أيّ حال، ليس الغرض طرح الأمور بصورة تشاؤمية، إلّا أن سورية تقف أمام أوّل تحوّل سياسي لا يتمّ عبر انقلاب عسكري صريح، وأن السقوط المباغت لنظام الأسد خلّف فراغاً هائلاً، ربّما يُبقي البلاد أمام سيناريوهات الأمر الواقع والتدخّلات الخارجية التي يمكن أن تؤدّي إلى الانفجار فجأة.
إذاً، لا يزال الصراع في سورية مستمرّاً ومن المبكّر الحديث عن مآلات ما يحدث، ومع ختام مشهد رحيل الأسد، ستدخل سورية مرحلةً جديدةً من التجاذبات والاستقطابات. بالتأكيد، تركيا اليوم من أكبر الرابحين، وتبقى العين دائماً على إسرائيل التي خرجت بمكاسب عظيمة من حربَي غزّة ولبنان، وتالياً سورية. هي التي لطالما عارضت خلع الأسد، بسبب خشيتها من الصبغة الإسلامية المتشدّدة الغالبة على المعارضة السورية المسلّحة، ما يجعل التنبؤ السياسي بما هو آتٍ غايةً في الصعوبة. فها هي تعلن انهيار اتفاقية فصل القوات بين إسرائيل وسورية لعام 1974، ليحتلّ جيشها جبل الشيخ والمنطقة العازلة، ثمّ يتوغل في ريف درعا جنوبي البلاد، بعد تدمير الآلة العسكرية السورية في ظروف مشبوهة لا تفسير لها. وبينما يستعدّ البيت الأبيض لاستقبال سيّده الجديد بمزاجه المتقلّب وسياساته الصادمة، التي يصعب التكهّن بدوافعها أو نتائجها، يسود منطق الإقصاء والتخوين بين السوريين، خاصّة أولئك المفخّخة قلوبهم بالأحقاد والآلام وشهوة الانتقام. والسؤال الجوهري هنا: هل يرتكب السوريون خطأهم التاريخي الثاني بعد عام 2011؛ بداية عظيمة، ولكن من دون أفق وطني جامع؟
بطبيعة الحال، ليس من المصادفة أن تتكرّر علامات السقوط الكبير لحكم الطغاة، لكن ما سينقذ البلاد فعلياً هو التنوّع السوري المرتبط بوعي السوريين بخطورة المرحلة وحسن تنظيمهم، باعتباره قوّة بشرية أهم من أيّ قوة أيديولوجية مسلّحة على الإطلاق. لنتذكر، يوم سلّم الرئيس شكري القوّتلي بلاده إلى دولة الوحدة العربية، أوصى الرئيس جمال عبد الناصر بعدم حكم السوريين بالقوة، معلّلاً ذلك بأنهم شعبٌ يؤمن كلّ من فيه بأنه سياسيٌّ بالفطرة، ويعتقد كثير منهم أنهم زعماء وأنبياء، بل وآلهة أيضاً (!)، وعندما أصرّ النظام الأمني المصري على إدارة "الإقليم الشمالي" بالاستخبارات ولغة الاستعلاء، ولم يرد أن يفهم ماهيّة التنوّع السوري، جاء السقوط المدوّي لدولة الوحدة بعد ثلاث سنوات. وعليه، تميل كاتبة هذه السطور إلى الجزم بأنّ الحكومة المؤقّتة ستواجه أفقاً مغلقاً إن هي تجاهلت هذا التنوع، فضلاً عن التصوّر الساذج بإمكانية جعل المرحلة الانتقالية مُجرَّد عبورٍ سلس من إمارة إدلب إلى خلافة دمشق الإسلامية المتشدّدة.

ليس من المصادفة أن تتكرّر علامات السقوط الكبير لحكم الطغاة، وما ينقذ البلاد وعيُ السوريين بخطورة المرحلة وحسن تنظيم تنوّعهم

لنتفق على أنّ خلع نظام الأسد صيرورة تاريخية مطلقة وقطعية لا شائبة فيها، لكنّها بالتأكيد ليست نهاية مشكلات سورية، فما زال السوريون يتخبّطون داخل دوامة عنف شديد اللزوجة، يخاف أن يُعاد إنتاجه بطرائق مختلفة تكون بداية الانزلاق إلى قاع جديد. ورغم أنّ إدارة العمليات العسكرية حاولت طمأنة الجميع بدءاً من اللحظة الأولى لانطلاق عمليتها، إلّا أن الجذور "الجهادية" لهيئة تحرير الشام ستبقى تثير الشكوك بشأن النيات المبيّتة، خاصّة أنها منحت سابقاً نظام الأسد ذريعةً للبقاء بحجّة مكافحة الإرهاب، بعدما كان بلا قضية تُشرّع وجوده.
بعد ثلاثة أشهر، سنتعرّف إلى إنجازات حكومة البشير - الشرع، لكن بالنسبة للعالم، كلّ شيء مرتبط بالتفاهمات السورية - السورية، وبديناميكيات التعامل مع الملّفات الساخنة المرتبطة بسورية التي تعيش مهرجان فرح يبدو وكأنه يُقام في مأتم كبير، يجمع بين صورة مملكة الصمت البائدة وتلميحات إلى أحداثٍ آتيةٍ قد لا تكون أقلّ إيلاماً عندما يخلق السوريون أنفسهم طاغيةً مستنسخاً لكلّ الأزمان، لا لشيء، فقط نكاية بالنظام المجرم القديم ومواليه، ليحقّقوا مُجدّداً نبوءةَ أمل دنقل: "لا تحلموا بعالم سعيد/ فخلف كلّ قيصر يموت، قيصر جديد".

PM:11:48:29/12/2024