ثنائية الجمال والشرّ
نجوى بركات
لماذا هذا الربط الدائم والغريب بين مفهومي الجمال والشرّ؟ ولماذا، كلما ازداد الجمال قوة واقترب من الكمال المطلق، أرعب وأقلق وارتفع ثمنُ بلوغه حتى ليصبح مرادفاً لبيع الروح والتعاقد مع الشيطان رمز الشرّ المطلق؟ هل هو الاعتراض على نهاية الحياة وحتمية الفناء؟ هل هو التوق إلى الكمال واعتبار الجمال أحد تجلياته؟ وهل أنّ الجمال في مكان ما، هو التوق إلى تمثّل الألوهة، ومن هنا خطورته؟ ومع هذا، فمن غير الجمال سوف تكون الحياة غير محتملة، ومن دون الجمال كيف يمكننا التغلّب على القباحة في كل مستوياتها ومظاهرها؟

في قصيدته "أنشودة الجمال"، (من قصائد أزهار الشر - 1857)، يقارن رائد الحداثة الشعرية الفرنسية، الشاعر شارل بودلير (1821 - 1867)، الجمال بامرأة مثيرة ساحرة وقوية قادرة على استعباد الشاعر، وجعل القدر يتتبّع أثرها مثل كلب! كما أنه يرى للجمال جانباً شيطانياً واتصالاً مباشراً بالموت، بحيث يبدي استعداده للتعاقد مع الشيطان إذا أتاح له ذلك أن يبلغ الجمال، ويعرف بعض لحظات النشوة الجمالية: "سواء جئتَ من أعماق السماء أم من الهاوية/ يا أيها الجمال! فإن نظرتك الجهنمية الإلهية/ تسكب بلا تمييز الإحسان والجريمة"... "أجئت من إبليس أو من إله، أكنت ملاكاً أم حورية؟ (...) ما همّ -أيتها الجنية ذات العينين المخمليتين- إذا كنت تجعلين الكون أقل قبحاً واللحظات أقل ثقلاً". وشارل بودلير الذي عاش حياة معارِضة كلية للقواعد الأخلاقية السارية ولكل ما مقته في عصره، ومثّله زوج أمه ذو التربية العسكرية القاسية الجامدة، جسّد الشاعر الملعون الذي لم ينل الاعتراف بموهبته ورُفض وقُمع حيّاً، وتوفي فقيراً ومريضاً ومعزولاً قبل أن يبلغ الأربعين من عمره، وهو ما صبغ وجوده بحزن وكآبة عميقين (spleen)، وإن اعترف به عالمُ الشعر لاحقاً فاعتبره أرتور رامبو "الإله الحقيقي"، وأندره بروتون "أول سريالي"، وبول فاليري "أهم الشعراء"...

أما في "رسم دوريان غراي" (الترجمة العربية هي "صورة دوريان غراي، لويس عوض، دار التنوير) للكاتب الإنكليزي أوسكار وايلد، فنحن أيضاً في مواجهة الجمال الكامل عندما يدرك سطوته وقوة أثره على الآخرين ويتحوّل شرّاً وأذية، كما أننا أمام أسئلة أخرى تتعلّق بالشرط الإنساني، وحتمية التقدم في العمر التي تعني بحسب الرواية، كل الضعف والقبح. دوريان غراي شاب جميل ذو ملامح ملائكية، عيون زرقاء صافية وشعر ذهبي. إنه ممزّق بين اتجاهين ورجلين سحرهما جمالُه: الرسام بسيل وهو أشبه بالملاك الحارس يريد فقط الخير لدوريان ويرى فيه الجمال الأسمى، واللورد هنري، الساخر الكاره للنساء والممتع، الذي يجسّد إغراء الشر الذي يريد أن يستولي على روح دوريان. بيد أن الأخير سيكون أكثر انجذاباً إلى الثاني وسوف يصبح تلميذه المخلص بحيث يتحوّل تدريجياً نموذجاً للفساد والرذيلة، متجاوزاً بشرّه ذاك حتى سيدّه، على الرغم من نصائح بسيل ومحاولاته دعوته إلى استرجاع براءته الأولى، ولحظات صحوة ضمير قليلة، لا تغيّر من قراره.

والحال أن هذا الانحدار إلى الجحيم كان قد ابتدأ عندما رسم بسيل لوحة رائعة للشاب هي بلا أدنى شك تحفته الفنية النهائية، حيث نجح في القبض على روح الشاب وجوهر شبابه، وهو ما جعل دوريان يكتشف نفسه ويخاف من فكرة فقدان ما رآه في الرّسم. بسيل لا يريد عرض لوحته، لذا نراه يهديها لدوريان الذي يعبّر بصوت عال عن رغبته في البقاء كما في هذا الرسم، إلى الأبد، فلا يتقدّم في السنّ، بل هي اللوحة التي تشيخ وتتدهور بدلاً عنه، متأثرة باعتداء الزمن والحياة عليها. هو هذا ما سيكون، وكلما بالغ دوريان في ارتكاب الأفعال المسيئة، وصولاً إلى القتل، انعكس في رسمه كل الشر والفساد.

AM:01:07:18/02/2025