معضلة الجماعة المهيمنة
أحمد سعداوي
عشية إعلان استقلال الولايات المتحدة الأميركية عن بريطانيا في العام 1776، كانت الجماعة المهيمنة في أميركا هي البيض البروتستانت الأنكلوساكسون، أو ما يعرف باختصار بـ"WASP"، لأن هذه الجماعة فعلياً هي من قادت حركة الاستقلال، وهي التي تضمّ النخب الفكرية والاقتصادية والتجارية ورؤوس الأموال. بينما ظلّت بقية الجماعات في مراتب متدنّية، حتى الحرب الأهلية التي أشعلتها قضية تحرير العبيد (1861-1865). ثمّ جاءت الهجرات الكبيرة من أوروبا وآسيا في أواخر القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين لتزعزع الهيمنة الديمغرافية لـ"WASP"، ولكنهم بقوا، مع ذلك، مهيمنين على مفاصل الدولة والمجتمع المدني وصناعة القرار السياسي.

ويمكن تفسير صعود ترامب واليمين المسيحي بشكل عام في أميركا بأنه ردّة فعل على الشعور بأن هذه المكانة التأسيسية للجماعة البيضاء في تراجع متزايد. وفي الحقيقة، لا يمكن التنبؤ هل عودة ترامب إلى البيت الأبيض هي "تنفيس" لمشاعر هذه الجماعة، أم تحوّل مفصلي، وأن "الترامبية" ستستمرّ بعد خروج ترامب من الرئاسة. في كلّ الأحوال، ما صنع أميركا، وعلى مدى أكثر من قرنين ونصف القرن منذ الاستقلال، هو بناء مؤسّسات الدولة المدنية الحديثة، وتمكين المجتمع من المساهمة في اعادة صياغة السياسات العامّة، لا مجرّد الرغبة "WASP" العارمة في الحكم والاستيلاء على مصادر الثروة، بل بالعكس؛ كان لبناء الدولة والمؤسّسات الدور الأكبر في الحفاظ على مصالح الجماعة البيضاء المهيمنة.

تواجهنا معضلة الجماعة المهيمنة في كلّ مكان في العالم تقريباً، ويقع على عاتقها غالباً رسم مستقبل البلاد، باعتبارها الجماعة الأقوى، وتتحكّم ببوصلة هذا المستقبل قدرة النخب في الجماعة المهيمنة على إدراك أهمية تشابك المصالح بين الجماعات والمكوّنات داخل البلد الواحد، وليس مجرّد التنفيس عن رغبة الهيمنة والسيطرة. تواجه بلداننا في شرق المتوسّط والمنطقة عموماً هذه المعضلة منذ عقود طويلة. ويتداخل التصوّر الاجتماعي العام مع القراءة الأيديولوجية للنخب، فينتج شكلاً سلطوياً من الجماعة المهيمنة، يعاد تثقيف المجتمع وفق أنموذجه من خلال وسائل الإعلام والتعليم والثقافة. إن أنتجت السلطة شكلاً أيديولوجياً "فاشياً" من الجماعة المهيمنة، فإن المجتمع في بلداننا لا يملك مناعة قوّية إزاء إغراء الاندراج في هذا الشكل، لأن السلطة في يدها قوّة المؤسّسات ومجتمعاتنا ضعيفة، لا تملك مناعةً أو حصانةً ضدّ التثقيف السامّ، ولم تتجذّر بين جنباته منظّمات مجتمع مدني أو نقابات قويّة.

لا يمكن اتهام الجماعة المهيمنة بأنها مذنبة، لأنها جماعة مهيمنة، المعضلة هي في الإطار الأيديولوجي الذي "يُفسّر" معنى الهيمنة، أو كيف تدير هذه الجماعة مصالحها بين الجماعات الأخرى داخل الوطن؛ هل تديره عن طريق فرض الطابع الثقافي والاجتماعي الخاصّ على مؤسّسات الدولة والفضاء العام أم من خلال مؤسّسات الدولة الوطنية، وقبول الاختلاف واحترام التنوّع، والقناعة بأن المجتمع متنوّع، حتى لو كانت الجماعة المهيمنة هي 90% من المجتمع، فإنها تحفل في داخلها بتنوّع أيديولوجي وفكري وحياتي، ولا توجد جماعة في العالم تصطفّ مثل استعراض عسكري، وترتدي بزّة واحدة وتتحدّث بالطريقة ذاتها.

لقد صبغ "الشيعة" في العراق، على سبيل المثال، و"السنّة" في سورية، بلديهما بطابعيهما الثقافي على الدوام، ولكن من خلال الهُويَّة الوطنية، على الرغم من الشعور الدائم بأنهم مقصيّون من السلطة. وما زال الشيعة في العراق يصارعون الأهواء السامّة التي تحجب عنهم القيام بدور أكثر فاعلية من خلال الإطار الوطني. ويقف السنّة في سورية أمام هذا التحدّي اليوم.

إن تجربة ملهمة في إدارة الدولة 249 سنة كما هي أميركا، مهدّدة اليوم بصعود التطرّف اليميني لـ"WASP"، الذي يمكن أن يمزّق المجتمع إن أستمرّت "الترامبية" بعد ترامب. يمكن لنا في بلداننا أن نتعلّم هذا الدرس: حتى البلدان العظيمة يمكن أن تتمزّق وتنهار إن سمحنا للفاشية والإقصاء ومحاصرة الآخرين في التغلّب على مشاعر من يرسمون سياسة الدولة ومؤسّساتها.

AM:12:10:04/03/2025