آني إرنو لا أدونيس
زياد بركات
في الأخبار أن آني إرنو الحائزة جائزة نوبل في الآداب عام 2022، كانت من بين الموقّعين على عريضة ترفض أي شكل من التعاون مع المؤسسات الثقافية الإسرائيلية، رفضاً منها لحرب الإبادة غير المسبوقة على قطاع غزة. 
موقف الكاتبة الفرنسية هذا ليس جديداً، فهي من المنتقدين الدائمين لجرائم إسرائيل، ولم تتراجع عنه رغم حملات من منظمات داعمة للاحتلال، عليها، وهو ما ينسجم مع فهمها لدور الكاتب، بل وللكتابة نفسها، من حيث هي عمل سياسي يفتح أعيننا على عدم المساواة الاجتماعية، وهو ما أشارت إليه الأكاديمية السويدية التي قالت إن إرنو تستخدم اللغة كسكين لتمزيق حُجب الخيال.
في كتابتها المتقشفة، الخلوّ من الاستعارات، القاسية في تعرية النفس الإنسانية وصولاً إلى أعماقها، الضعيفة والهشة، وإلى الانكسارات المطمورة، والمباهج القليلة لهذا الكائن الغريب، تنتمي إرنو إلى تيارات الكتابة المضادة للسائد، بل وربما لمفهوم الأدب نفسه في تياره العريض تاريخياً.
على أن هذه ليست فضيلتها الوحيدة، فثمة ذئاب كثيرة في الغابات وليست كل الأصوات موسيقى، بل في كونها "إنسانة" تطلّ من نافذتها فترى أرانب تُذبح في الجوار فلا تغمض عينيها عن أصواتها الشبيهة بأصوات الأطفال حين يذبحون، بل تبدأ بالصراخ علّ القَتَلة بسكاكينهم الطويلة والمسنونة جيداً يكفون عن تمارينهم اليومية في القتل.
عام 2018 كانت إرنو من رافضي إحياء ذكرى إنشاء إسرائيل السبعين في باريس، وفي العام التالي وقّعت على بيان يدعو السلطات الفرنسية إلى عدم بثّ مسابقة الأغنية الأوروبية "يوروفيجين" التي أقيمت في تل أبيب، على القنوات الفرنسية، وبالإمكان توقّع مواقفها لاحقاً، قبل نيلها نوبل في الآداب وبعده، أخذاً في الاعتبار أن كتابة إرنو منشغلة تماماً بنفسها، بتأملاتها ومقارباتها لمشاغل الإنسان الصغيرة، وبإرنو تحديداً، بماضيها وطفولتها وانكساراتها ومباهجها، بمعنى أنها كتابة لا تدّعي تمثيل الآخرين والتعبير عنهم، ولا تحفل بجمهورها بمعنى الالتزام الذي ساد في ستينيات القرن الماضي، وجعل الكتابة منسرقة ومشروطة بالتعبير عن القضايا الكبيرة، الطليعية بتعبير تلك الأيام.
ورغم ذلك، فإن إرنو، كاتبة نفسها وانشغالاتها، كانت تجد دائماً ما يكفي من وقت وانتباه لترى أن ثمة ظلماً، يُملي عليها كإنسانة على الأقل أن تتخذ موقفاً، وتدعو من يملك السلطة إلى التدخل لوقف مأساة تجري هنا أو هناك.
وهو ما لا يشاركها فيه كاتبان فرنسيان آخران، يقيمان تحت السماء نفسها، وينتميان إلى تلك النوافذ الملقاة في فراغ الإنسانية، وتطلّ على العدم نفسه إذا شئت والألم في ذرواته، وعلى الإنسان هذا الضحية/الجلاد الذي لم يكفّ عن ارتكاب الجريمة تلو الأخرى منذ نفيه الأكبر إلى هذه الأرض المبتلاة بساكنيها.
وأقصد هنا أدونيس وأمين معلوف، والأول اكتشف أخيراً سورية التي ولد فيها، عندما شوهد مع آخرين تظاهروا وسط باريس للتضامن مع ضحايا أحداث الساحل السوري (6 و7 و8 مارس/ آذار الحالي)، وهي مدانة ومُستنكرة اليوم وغداً، رغم أن الشاعر نفسه أرجع عدم اتخاذه موقفاً من فرار بشّار الأسد إلى أنه لا يعرف سورية "إذا ما تحدثنا في العمق"، وذلك في مؤتمر صحافي له بعد أيام قليلات من إطاحة الجزّار الصغير الفارّ. 
ومن الجيد أن يبدأ أدونيس بالتعرف إلى بلاده الأم، ولنفترض أن تضامنه مع ضحايا أحداث الساحل هو البداية، ولنشجّعه على ذلك، من أجله لا من أجلنا أو من أجل مواطنيه، وهم سنّة ودروز ومسيحيون وعلويون ومكوّنات أخرى، بعضهم لم يسمع باسمه أصلاً، ولا يكترث به وسط مشاغل حياتية طاحنة تبدأ من الحفاظ على الحياة نفسها، ولا تنتهي بتأمين قارورة غاز للعائلة كثيرة الأولاد.
وإن المرء ليستغرب أحياناً من حال بعض مثقفي المنطقة، والقطيعة غير المفهومة، المتغطرسة، مع أصولهم، وهذا مظهر ضعف ومركّب نقص مقارنة باهتمام آخرين ليسوا من جلدتنا ويُعنون بعذاباتنا، بينما يفترض أن يكونوا (مثقفينا) أفضل من يشخّص ويحلّل ويرى الأوضاع في تلك المجتمعات "المتخلفة" التي تركوها وراءهم، وأن يسعوا لانتشالها من أوحالها، فإذا حاضروا أو سألتهم وسائل الإعلام، نراهم الأخبر بمجتمعاتهم تلك، والأجرأ في تفكيكها لا إنكارها والحرص على عدم الحديث عنها أو اتخاذ موقف مما يجري فيها، كأنهم هبطوا الأرض من كوكب آخر لا ينتمي إلى مجرتنا نفسها.

AM:12:58:24/03/2025